بسم الله الرحمن الرحيم
أغنياء النفوس
اليومَ لا يخفى ما يُعانيهِ المُسلمونَ من شِدَّةِ البلاءِ وتوالي النَّكَبَاتِ والمَصَائِبِ عليهم، تُرى كَيفَ كانتْ مَوَاقِفُ الصَّحابةِ أغنياءِ النُّفُوسِ الذينَ أَعَزَّهُمُ اللهُ تَعَالى بالإسلامِ وكيفَ بَذَلُوا المالَ وجاهَدُوا بالنَّفسِ مع رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وَمَا أحْوَجَنَا اليومَ لمَوْقِفِ أبي بكْرٍ الصِّديقِ رضيَ اللهُ عنهُ الذي تَبَرَّعَ بأكثرِ مالِهِ ليُجَهِّزَ جيشَ المُسلِمِينَ ولم يُبْقِ لِنَفْسِهِ ولأهلِهِ إلا النَّذرَ القليلَ.
هذا هُو أبو بكْرٍ الصِّدِّيقُ رضيَ اللهُ عنهُ رأسُ هذِهِ الأمَّةِ المحمَّديَّةِ بعدَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ غَنيّاً ثَريّاً وسَّعَ اللهُ عليهِ بالمالِ ومع ذلكَ كانَ زاهِداً عابِداً ناسِكاً رقيقَ النَّفسِ وكذلِكَ عُثمانُ بنُ عفّانَ رضيَ اللهُ عنهُ الذي جهَّزَ جيشَ العُسْرةِ بِعَشْرَةِ آلافِ دينارٍ من الذَّهَبِ وقَدَّمَ كُلَّ قافِلَتِهِ التي كانتْ قادِمَةً من بلادِ الشّامِ بأقتَابِهَا وأحْلاسِهَا وَحُمُولَتِهَا قدَّمَهَا بينَ يديْ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حتَّى استَهَلَّ وَجْهَهُ فَرَحاً لما فَعَلَ عُثْمانُ بنُ عفّانَ الذي دَعَمَ مَوقِفَ الإسلامِ والمُسلمينَ بأن جَهَّزَ جيشَ العُسرةِ وقَدَّمَ قافِلَتَهُ التِّجاريّةَ القادِمَةَ من بلادِ الشّامِ عامَ القحْطِ للمُسلِمينَ.
أوَلَمْ يَكُنْ عُثْمانُ زاهِداً، مع كونِهِ ثَريّاً بالمالِ كانَ عابِداً زاهِداً ناسِكاً.
إذن فالزُّهدُ والوَرَعُ ليْسا مُتَوَقِّفَيْنِ على الفقْرِ والقِلَّةِ وليْسِ كُلُّ فقيرٍ قليلُ المالِ وَرِعَاً وإنما الوَرَعُ والتَّقوى يكونانِ بالتزامِ الطَّاعاتِ واجتِنَابِ المُحَرَّماتِ ومنْها اجتنابُ أكلِ مالِ الحرامِ فَكَمَا أنَّ الغنيَّ مُطَالَبٌ بالبذْلِ والعَطَاءِ والسَّخاءِ إضافةً إلى الواجِباتِ كذلِكَ الفقيرُ مُطالَبٌ بالزُّهدِ، الفقيرُ مُطالَبٌ بالقَنَاعَةِ، الفقيرُ مُطَالَبٌ بأنْ يَقْنَعَ بالمالِ الحلالِ مهْما كانَ قليلاً لا أنْ يَتَوَرَّطَ في أكلِ مالِ الحرامِ لِيَتَوَسَّعَ وأهلُهُ ولِيَتَلَذَّذَ مع أهْلِهِ بهذا المالِ الحرامِ ويظُنُّ أنْ ليسَ عليهِ منْ يُرَاقِبُهُ، الزُّهدُ ليسَ مُتَوَقِّفاً على الفقْرِ، والبذلُ والعَطَاءُ ليسَ مَقْصُوراً على الأغْنِياءِ.
فليسَ كُلُّ الصَّحَابَةِ كانُوا أغْنياءَ بالمالِ وإنّما كلُّهُم كانُوا أغنياءَ بالنُّفُوسِ فَكَمَا بَذَلَ أبُو بكرٍ الصّديقُ رضيَ اللهُ عنهُ وَمَنْ بَعْدَهُ عُثْمَانُ كذلِكَ فَعَلَ عَبْدُ الرَّحمنِ بنُ عَوْفٍ وغيْرُهُ من أغنياءِ الصَّحَابَةِ رِضوانُ اللهِ عليهِمْ وأمَّا أولئِكَ الذينَ لم يَكُنْ لديهِمْ مالٌ تُرى ماذا قَدَّمُوا في سبيلِ اللهِ ؟ وَبِمَ حقَّقُوا مَقَاصِدَ الإسْلامِ إذا كانَ أبو بَكْرٍ وعُثْمَانُ قد قدَّمَا رضي اللهُ عنهُمَا أموالَهُمَا في سبيلِ اللهِ لِتَحْقِيقِ نُصْرةِ الإسْلامِ وتحقيقِ مقاصِدِ الدِّينِ فماذا قَدَّمَ الفريقُ الآخَرُ منَ الصَّحَابَةِ الذينَ كانُوا بالمالِ فُقَرَاءَ أَلَمْ يَكُنْ خالِدُ بنُ الوليدِ مِثالاً يُحْتَذَى لِطالِبِ الاسْتِشْهادِ في سبيلِ اللهِ ولا يَخْفى كَمْ هيَ النَّفْسُ غالِيَةٌ أغلى من المالِ فَمَنْ لم يكُنْ مِنهُم ذا مالٍ ضحَّى بنفْسِهِ وَمَنْ كانَ منهم ذا مالٍ بَذَلَ وَسَخَا بمالِهِ وبِنَفسِهِ هَؤلاءِ الصَّحَابَةُ رضوانُ اللهِ عليهِم غَنِيُّهُم وفَقيرُهُم بالمالِ كانُوا مِثالاً للزُّهْدِ والوَرَعِ وَمَا أَحْوَجَنَا اليَوْمَ وَنَحنُ في عُسْرةٍ أن تَتَحَرَّكَ صَنَاديقُ الأثْرِياءِ لإسْعافِ المنكُوبينَ وأهلِ الضَّرُوراتِ وفي نفْسِ الوقتِ أن يَلْتزِمَ الفُقَرَاءُ بابَ القَنَاعَةِ أن يلتَزِمَ الفُقَرَاءُ بابَ التَّقوى والوَرَعِ أن يَلْتزِمَ الفُقَرَاءُ بابَ الزُّهدِ بأنْ يَقْنَعُوا بالمالِ الحلالِ مهْما كانَ قليلاً فاللهُ تباركَ وتعالى فعّالٌ لما يُريد.
فيا أيُّها الأحِبَّةُ الُمسلمونَ اقْتدُوا بأبي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وَعَليٍ اقتدُوا بعبدِ الرّحمنِ بنِ عوْفٍ وخالدٍ بنِ الوليدِ أولئكَ الذينَ ضَحُّوا بأنْفُسِهِمْ من أجْلِ تحقيقِ مَقَاصِدِ الإسْلامِ ومَنْ كانَ مِنْكُمْ ذا مالٍ فلْيُنْفِقْ من مالِهِ واللهُ تبارَكَ وتَعَالى يقولُ في القُرآنِ الكريمِ: { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
أقُولُ قَوْلي هذا وأستغفِرُ اللهَ لي وَلَكُمْ.