الخُلقْ والطَبـائع
الخلق عند "مسكويه" هو الطبع والسجية وهو بهذا يتعلق بأعمال الإنسان الباطنية لا الظاهرية. ويعرف مسكويه الخلق في "التهذيب" بأنه حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا ريبة. وحال النفس هذه عند "مسكويه" تكون على قسمين:
القسم الأول: ما يكون طبيعيا من أصل المزاج كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو غضب ويتهيج من أقل سبب. مثل ذلك الذي يجبن من أيسر شيء أو يفزع من أدنى صوت.
والقسم الثاني: ما هو مستفاد من العادة والتدريب وربما يكون مبدوءه بالروية والفكر ثم يستمر الإنسان عليه أولا فأول حتى يصير ملكةً وخلقاً.
معنى ذلك أن الخُلق يشمل الصفات الطبيعية المركوزة في فطرة الإنسان وجبلته، كالميل الفطري إلى البذل والإحسان أو الإمساك والعدوان. ويشمل كذلك الصفات التي اكتسبها الإنسان بالتدريب والمران حتى أصبحت عادة له وصفة راسخة فيه. وذلك أن مزاولة الخلق المطلوب مراراً تؤدي بالشخص إلى امتلاك ذلك الخلق. فمن يزاول خلقا يريده كالصبر مثلا، فإنه يتمرن على ذلك ويتكلفه حتى يصير الصبر له سجية وملكة.
كأن السلوك أو الفعل لا يكون خلقا أو جزاءا من الخلق إلا إذا توفر فيه شرطان. الشرط الأول أن يكون عادة ثابتة راسخة، والشرط الثاني أن يصدر من صاحبه بسهولة ويسر من غير تكلف و لا روية.
ويرى "مسكويه" كذلك أن الشخص الذي فُطر على نحو معين يدعو إلى نوع معين من الأفعال لا يتعذر عليه أن يغير ما فُطر عليه وذلك لأننا قابلون للتخلق بالأخلاق المختلفة إما بسرعة أو ببطء، يشهد لذلك الواقع وملاحظة انتقال الصبي الناشئ من حال لحال تبعاً للبيئة التي تحيطه ونوع التربية التي يتلقاها.
وهذا معناه من نظر "مسكويه" أن الإنسان لديه الإستعداد لأن يتخلق بالخلق الحسن أو يتخلق بالخلق السيء. أي أن النفس لا تولد على صورة محددة أو نهائية، وإنما هي قابلة للتشكل وفقاً لما يحيط بها من ظروف وملابسات، وحسب ما يعرض عليها من رياضة و تدريب على العادات. فهي على هذا الأساس قابلة للفضيلة وقابلة للرذيلة في آن واحد. والذي يقرر إلى أي الجانبين تنحاز هو الظروف والملابسات الحياتية التي توجد فيها.
كأن الإنسان في نظر "مسكويه" لديه الإستعداد للخير ولديه الإستعداد للشر، ذلك أن الله سبحانه وتعالى أودع في النفس الإنسانية فجورها وتقواها.
وما دام الإنسان لديه الإستعداد للتخلق بالحسن و القبيح، فإن الخلق ليس أمرا فطريا طبيعيا في النفس، و إنما هو أمر يمكن للإنسان أن يكتسبه. واكتساب الخلق يكون تارة عن طريق التقليد الآلي أو عن طريق القصد والفهم والتعمد.
فالصبيان في حداثتهم يكون اكتسابهم للفضائل آليا عن طريق التقليد، أو عن طريق التوبيخ والضرب، حتى إذا ما نهجوا نهجا معينا من الأخلاق والفضائل وتعودوا على ذلك واستمروا عليه مدة طويلة من الزمان أمكنهم أن يتعلموا براهين ما سبق إن اخذوا تقليدا. فينبهوا إلى طرق الفضائل واكتسابها والبلوغ إلى غايتها، ومن أهم الطرق التي يمكن بها اكتساب الأخلاق الكريمة والفضائل، التعلم ومخالطة الناس؛ لأن التعلم يهذب نفوسنا ويعرفنا كيف نكبح جماح شهواتنا وقوانا الخسيسة وكيف نتطهر من رذائلنا. وأما مخالطة الناس، فإنها تغرس فينا الروح الإجتماعية وتقاوم نزعة التفرد والأنانية.
وعلى هذا الأساس، فنحن قابلون للتخلق بالأخلاق المختلفة إما بسرعة أو ببطء. إن كل خلق قابل للتغير يشهد بذلك الواقع. وأدل الادلة على ذلك، أن ينتقل الصبي الناشئ من حال لحال طبقا للبيئة التي تحيط ونوع التربية التي يتلقاها. ويشير "مسكويه" إلى أن القول الذي مؤداه أن الخلق الطبيعي غير قابل للتعديل يؤدي إلى أمر بالغ الخطر، لأن في هذا إبطال لقوة التمييز والعقل عند الإنسان. كما يؤدي إلى ترك الناس همجاً مهملين وإلى ترك الصبيان والأحداث على ما يتفق لهم أن يكونوا عليه دون سياسة ودون تعليم، وهذا أمر ظاهر الشناعة. وإلا فما هو هدف الشرائع و ما هو هدف النبوات، أليس التعديل والتقويم؟
ويشير "مسكويه" إلى مبدأ نفسي هام وهو الفروق النفسية بين الأفراد في تقبل التغيير والتبديل في السلوك واكتساب الفضائل. ذلك أن الناس يختلفون في قبول التخلق بالمكارم والتحلي بالآداب، فمن الناس من هو الليّن السلس الذي لا يحتاج إلى جهد في إصلاحه. ومنهم الصعب الشرس الذي يحتاج إلى جهد كبير. ومنهم من لا يرجى إصلاحه بتاتاً. ذلك أن الناس ليسوا في رتبة واحدة وهم على حد قوله فيهم المتوافق والممتنع والسهل والفظ والخَيّر والشرير، والمتوسطون بين هذه الأطراف في مراتب لا تحصى.
وهذا العرض لموضوع الخلق والطبائع في كتاب "تهذيب الأخلاق"، يجعل من هذا الكتاب وثيقة تربوية نفسية أخلاقية جليلة الخطر أخذ "مسكويه" فيها بطرف من التراث اليوناني وبطرف من التصور الإسلامي على عادة علماء التراث النفسي الإسلامي في العصور الوسطى.