الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: فهذا موضوع يحتاج إليه الصغير والكبير والعالم والجاهل والرجل والمرأة، ألا وهو:
الصبر
الصبر: هو أن يلتزم الإنسان بما يأمره الله به فيؤديه كاملا، وأن يجتنب ما ينهاه عنه، وأن يتقبل بنفس راضية ما يصيبه من مصائب وشدائد، والمسلم يتجمل بالصبر، ويتحمل المشاق، ولا يجزع، ولا يحزن لمصائب الدهر ونكباته. يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153].
الصبر على الطاعة:
فالمسلم يصبر على الطاعات؛ لأنها تحتاج إلى جهد وعزيمة لتأديتها في أوقاتها على خير وجه، والمحافظة عليها. يقول الله -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} [الكهف: 28]. ويقول تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} [طه: 132].
الصبر عن معصية الله:
المسلم يقاوم المغريات التي تزين له المعصية، وهذا يحتاج إلى صبر عظيم، وإرادة قوية.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل المهاجرين من هجر ما نهي الله عنه، وأفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذاتالله -عز وجل-) [الطبراني]. صحيحه الألباني "صحيح الجامع" (1129) والصحيحة" (3/478/1491). من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص
الصبر على أقدار الله المؤلمة
ذات يوم مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبر، فرأى امرأة جالسة إلى جواره وهي تبكي على ولدها الذي مات، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقي الله واصبري). فقالت المرأة: إليك عني، فإنك لم تُصَبْ بمصيبتي.
فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن المرأة تعرفه، فقال لها الناس: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسرعت المرأة إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم تعتذر إليه، وتقول: لَمْ أعرفك. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) [متفق عليه]. من حديث أنس رضي الله عنه. أي يجب على الإنسان أن يصبر في بداية المصيبة.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضتُ صَفِيهُ من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة) [البخاري].
وقد مرَّت أعرابية على بعض الناس، فوجدتهم يصرخون، فقالت: ما هذا؟
فقيل لها: مات لهم إنسان.
فقالت: ما أراهم إلا من ربهم يستغيثون، وبقضائه يتبرمون (يضيقون)، وعن ثوابه يرغبون (يبتعدون).
وقال علي رضي الله عنه: إن صبرتَ جرى عليك القلم وأنتَ مأجور (لك أجر وثواب)، وإن جزعتَ جرى عليكَ القلم وأنت مأزور (عليك وزر وذنب).
الصبر على ضيق الحياة: المسلم يصبر على عسر الحياة وضيقها، ولا يشكو حاله إلا لربه، وله الأسوة والقدوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه أمهات المؤمنين، فهذه عائشة -رضي الله عنها- تحكي أنه كان يمر الشهران الكاملان دون أن يوقَد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، وكانوا يعيشون على التمر والماء.[متفق عليه].
ومن الصبر على أقدار الله المؤلمة:
1) الصبر على المرض:
إذا صبر المسلم على مرض ابتلاه الله به، كافأه الله عليه بأحسن الجزاء، قال صلى الله عليه وسلم: (من أصيب بمصيبة في ماله أو جسده، وكتمها ولم يشْكُهَا إلى الناس، كان حقًّا على الله أن يغفر له).[الطبراني].وهو ضعيف ومعنا صحيح بما جاء في الحديث الصحيح.
عن ابن عباس عن النبي e قال قال الله عز وجل ( من أخذت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثوابا دون الجنة ). الضياء في المختارة، وغيره
ومن حديث أبي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ إلى النبي e قال يقول من أَذْهَبْتُ حبيبته فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ لم أَرْضَ له بِثَوَابٍ دُونَ الْجَنَّةِ) أحمد. وغيره
2) الصبر على أذى الناس:
قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم إذا كان مخالطًا الناس ويصبر على أذاهم، خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) [الترمذي].
عن جابر بن عبد الله الأنصاري أخبر أنه غزا مع رسول الله e غزوة قبل نجد فأدركتهم القائلة يوما في واد كثير العضاة فنزل رسول الله eوتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر ونزل رسول الله e تحت شجرة فعلق بها سيفه قال رسول الله e لرجل عنده إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال لي من يمنعك مني فقلت الله فقال من يمنعك مني فقلت الله فشام السيف وجلس وهو ذا جالس ثم لم يعاقبه رسول الله e. [النسائي، وابن حبان. واصله في الصحيحين]
الصبر خلق الأنبياء:
ضرب أنبياء الله -صلوات الله عليهم- أروع الأمثلة في الصبر وتحمل الأذى من أجل الدعوة إلى الله، وقد تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاق في سبيل نشر الإسلام، وكان أهل قريش يرفضون دعوته للإسلام ويسبونه، ولا يستجيبون له، وكان جيرانه من المشركين يؤذونه ويلقون الأذى أمام بيته، فلا يقابل ذلك إلا بالصبر الجميل. يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وتحمله للأذى: (كأني أنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي (يُشْبِه) نبيًّا من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ضربه قومه فأدموه (أصابوه وجرحوه)، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) [متفق عليه].
وقد وصف الله -تعالى- كثيرًا من أنبيائه بالصبر، فقال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ} (الأنبياء : 85 )
وقال الله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } [الأحقاف: 35].
وأولو العزم من الرسل هم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد -عليهم صلوات الله وسلامه-.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } [الأنعام: 34].
وقال تعالى عن نبيه أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }[ص: 44].
فقد كان أيوب -عليه السلام- رجلا كثير المال والأهل، فابتلاه الله واختبره في ذلك كله، فأصابته الأمراض، وظل ملازمًا لفراش المرض سنوات طويلة، وفقد ماله وأولاده، ولم يبْقَ له إلا زوجته التي وقفت بجانبه صابرة محتسبة وفِيّةً له.
وكان أيوب مثلا عظيمًا في الصبر، فقد كان مؤمنًا بأن ذلك قضاء الله، وظل لسانه ذاكرًا، وقلبه شاكرًا، فأمره الله أن يضرب الأرض برجله ففعل، فأخرج الله له عين ماء باردة، وأمره أن يغتسل ويشرب منها، ففعل، فأذهب الله عنه الألم والأذى والمرض، وأبدله صحة وجمالا ومالا كثيرًا، وعوَّضه بأولاد صالحين جزاءً له على صبره، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ } [ص: 43].
والجامع للصبر: الصوم
قال ابن رجب الحافظ ابن رجب الحنبلي المعروف، نعم؛ لأن الصائم يصبر على طاعات الله، ويصبر عن معصية الله، فهو يمتثل الأوامر، يلتزم بما أوجب الله عليه وينتهي عن ما حرم الله عليه في الصيام، فيصبر الصائم، فهو صابر على الطاعة وصابر عن المعصية، وهو أيضا يصبر على ما يصيبه من الألم، ألم الجوع والظمأ، هذا صبر على أقدار الله، ففي الحديث عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال قال رسول اللَّهِ eكُلُّ عَمَلِ بن آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إلى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ قال الله عز وجل إلا الصَّوْمَ فإنه لي وأنا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ من أَجْلِي). مسلم وغيره.
فاجتمعت أنواع الصبر الثلاثة كلها في الصيام.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين،،،،،