[frame="15 98"][frame="2 98"]
احبتي هذه امرأةٌ أخلصتْ لزوجها، فأنقذتْه من النار بعد أن هداها الله إليه، وهي صحابية جليلة وقفتْ - انطلاقًا من حبها لزوجها - موقفًا قويًّا في ساعة امتحان صعب، فاندفعتْ بعد إسلامها مباشرة تحاول إنقاذ زوجها، الذي كان - كما كانتْ هي - من ألدِّ أعداء الإسلام، فلما هداها الله وأسلمتْ يوم الفتح الأعظم، أبتْ إلا أن يشاركها زوجُها الإسلام كما شاركها الجاهلية، والعملَ للإسلام كما شاركها العمل ضد الإسلام!
هذه الصحابية الجليلة القدر هي (أمُّ حكيم بنت الحارث بن هشام) القرشية المخزومية، التي تأخر إسلامها؛ إذ آمنتْ - ككثير من أهل بيتها - يوم فتح مكة العظيم في السنة الثامنة من الهجرة، وكان ممن أسلم مثلها في ذلك اليوم أمُّها (فاطمةُ بنت الوليد بن المُغِيرة) القرشية، التي سبقها إلى الإسلام أخواها (الوليد بن الوليد) و(خالد بن الوليد)، وكلٌّ منهما طيِّب الذكر في تاريخ مسيرة الإسلام، والتمسك به، والدفاع عنه، والجهاد في سبيله.
إنها (أسرةٌ) كاملة أبطأت في قَبُول الإسلام، لكنها عندما هداها الله قدَّمت صفحات رائعة، فاستحقَّت أن تُوصَف بهذا الوصف الكريم: ((خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا)).
لقد ارتفعتْ يوم فتح مكة رايةُ الإسلام خفَّاقة، وجاء نصر الله لعسكره دون قتال يذكر، فكان بحق فتحًا مبينًا، وكان نقطة انتقال في مسيرة الدعوة الإسلامية، وفي تاريخ الإنسانية جمعاء.
ولم يَسَعْ فئةً قليلة ممن ناهضوا الإسلام والمسلمين من قبلُ إلا أن تفرَّ خارج مكة، بل وخارج حدود الجزيرة العربية؛ شعورًا بالذنب، وخوفًا مما قد تلقى جزاءَ ما اقترفتْه أيديهم وألسنتهم من إيذائهم صحابةَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبطشهم بهم بطشَ غادرين لم يَرْعَوا حرمة، ولم يقدِّروا صهرًا ولا قرابة، فكان عداؤهم للإسلام ولرسوله ولأتباعه شديدًا تجاوز الحدود الإنسانية والأخلاقية!
وكان من هذا النفر الذي فرَّ (عِكْرِمَةُ بن أبي جهل) زوجُ (أمِّ حكيم)، التي كانتْ قد أسلمت مع من أسلم في يوم الفتح، وقذف الله في قلبها الإيمان وحبَّبه إليها، كما قذفه في قلب أمها (فاطمة بنت الوليد)، وساءها وأحزنها ألا يفوزَ زوجُها بالإسلام ورضا الله والجنة، بعد أن استشعرتْ هي حلاوة الإيمان ونعمة التوحيد.
وقد عزَّ على (أم حكيم) أن يكون مصير زوجها (عكرمة بن أبي جهل) هذا المصير السيئ، وهو الذي شاطرها الحياة حلوَها ومُرَّها، وعاشا معًا جنبًا إلى جنب قبل الإسلام.
ولهذا؛ فعندما انتهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- من البيعة، وقفتْ أمامه وقالتْ له بصوت كله رجاء وأمل: "يا رسول الله، إن عكرمةَ زوجي قد هرب منك إلى اليمن، وخاف أن تقتله، فأمِّنه يا رسول الله (أي: أعطني الأمان له من القتل يا رسول الله)، فقال لها النبي الكريم الرحيم -صلى الله عليه وسلم-: ((هو آمنٌ يا أم حكيم)).
فكأنه -صلى الله عليه وسلم- بهذا الأمان حرَّك فيها كلَّ ما بينها وبين زوجها من حبٍّ ووفاء؛ فانطلقتْ مسرعة تحاول اللحاق بزوجها قبل أن يفوتَ الوقت ويترك جزيرة العرب.
وقد أدركتْ (أم حكيم) زوجها (عكرمة) وقد انتهى إلى ساحل من سواحل تِهَامة؛ حيث ركب البحر، وأوشكت السفينة على الإقلاع، فنادتْه بأعلى صوتٍ في شبه توسل قائلة له: "يا بن عم، جئتُك من عند أوصل الناس، وأبرِّ الناس، وخير الناس، يا بن عم، لا تُهلِك نفسَك (هلاكًا دنيويًّا وأخرويًّا معًا)، يا بن عم، إني قد استأمنتُ لك محمدًا، ولقد كلمتُه فأمَّنك".
وكأن كلماتها وقعت بردًا وسلامًا على (عكرمة)، وكأنه كان ينتظرها؛ ولهذا فعندما أدرك (عكرمة) أن ما قالتْه (أم حكيم) إنما هو عهد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يعرف - كما يعرف الجميع - أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- إن قال وفَّى، وأن إخلاف الوعد في دينه شعبةٌ من شعب النفاق، عندما أدرك (عكرمة) حقيقةَ الصدق في كلام زوجته (أم حكيم) سرعان ما عاد إليها ومعها قافلينِ معًا إلى مكة المكرَّمة؛ ليقابلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليُعلِن (عكرمة) بين يديه إسلامه، وليصبح بعد ذلك - عكرمة بن أبي جهل - من جنودِ الإسلام وقادةِ معاركه الجهادية، وكأنه ضمن إطار الأسرة التي ينتمي إليها بالمصاهرة كان يريد محو آثار الماضي، مع علمهم بأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، إلا أن طبيعتهم تأبَى إلا أن يكونوا أقوياء في ظل الإسلام أكثرَ مما كانوا في ظل الجاهلية.
وثَمَّة درس آخر قدَّمتْه الزوجة الوفية (أم حكيم)، فليس حب الزوجة لزوجها شأنًا من شؤون الدنيا فحسب، بل هو شأن من شؤون الآخرة بالدرجة الأولى، وصدق الله العظيم، الذي وجه إلى هذه الحقيقة في قوله - عز وجل -: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67]؛ فالحب الباقي والخالد هو الحب في سبيل الله؛ دنيا وآخرة.
وهكذا كانت الزوجة الوفية والصحابية الجليلة (أم حكيم بنت الحارث)![/frame][/frame]