السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته:
الحمد لله الذي زيّن قلوب أوليائه بأنوار الوفاق،وسقى أسرار أحبائه شرابا لذيذ المذاق،وألزم قلوب الخائفين الوجل والإشفاق، فلا يعلم الانسان في أي الدواوين كُتب ولا في أي الفريقين يُساق، فإن سامح فبفضله وإن عاقب فبعدله ، ولا اعتراض على الملك الخلاّق.
وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير،إلهٌ عزّ من اعتزّ به فلا يُضام، وذلّ من تكبّر عن أمره و لقِيَ الآثام.
وأشهد أنّ سيدنا و حبيبنا و شفيعنا محمّدا عبد اللّه و رسوله ،وصفيِّه من خلقه،خاتم انبيائه،وسيِّد اصفيائه،المخصوص بالمقام المحمود،في اليوم المشهود،الذي جمع فيه الانبياء تحت لوائه وعلى آله وأصحابه،ومن سار على نهجه،وتمسّك بسنّته،واقتدى بهديه،واتبعهم بإحسان الى يوم الدين،ونحن معهم يا ارحم الراحمين.
امّـــا بعد:
فيا عباد الله: إن خير مايوصى به رخاءا وضيقا :تقوى اللّه عزّ وجلّ امتثالا وتحقيقا،فتقواه -سبحانه-هي النور المبين لمن رام فلاحاً وتوفيقاً، والعروة الوثقى للرّاجين اعتصاما بالله وثيقاً،وبها ينهج أول و الألباب بالأمجاد سبيلا وطريقا (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) الطّلاق -04-
ومالبس الانسان ابهى من التّقى
وإن هو غالي في حِسان الملابس
وإنّ التّقى للمرء زادٌ و رفعةٌ
وخير ضياء في ظلام الحنادس
أيّها المسلمون:
من معاقد القول المؤكدة،وعزائمه المقرّرة الموطّدة ان منن الباري-سبحانه- على عباده عظيمة مترادفة ،هتّانةو متوافدة،ظاهرة وخفيّة،جليّة وسنيّة،في الانسان والآفاق
وإنّها لدالّة على عظمة الحكيم الخلاّق،امتن بها تبارك وتعالى سبيلا لقربانه، وبلاغا لجنانه ومرضاته،وفق أحكم شريعة،وأكملها،وأسناهاو أفضلها،وأزكاها وأجملها فلا استغناء عن مفصلها بمُجملها ( وإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَتُحْصُوهَا) ابراهيم -34-
ومن فيض تلك النَّعم...نعمةٌ نبوء بشكرها وحمدها ،وننوء بحصرها وحدها، وماهيتها،تلكُم نعمة الـــعقل و الإدراك ،والنُّهى وما أدراك! ، احدى المنن الربّانيّة،والخصائص الإنسانية.
فالعقل جوهر الإنسان السطوع،ومعدنه النّفيس اللّموع،بالعقل تفتّقت الملكات عن روائع الحضارات ،والتقنيّة الدّقيقة، وأبحر بها في أثباج الكشوفات و المجرّات السّحيقة.
تكريم اللّه للإنسان بالعقل:
كرّم اللّه الإنسان بالعقل ،وهذا دليل على منزلته واعتباره واهتمام الاسلام به، فجعله يهدي الأفئدة والأبصار للايمان باللّه الكبير المتعال ،ويرشد لمعاقد الحق والجلال،و زمّها عن مهاوي الإلحاد و الضّلال (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُم في الْبرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْنَاهُم مِنَ الطّيِّباتٍ وَ فَضَّلْناهُم عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) الإسراء -70-
← وترجع اهمّية العقل إلى:
ــ تمييز الانسان عن باقي المخلوقات ،فالعقل هو أداة الإدراك و الفهم والتّمييز بين سائر المخلوقات.
ــ قدرة العقل على الإجتهاد والتّجديد فهو أداة تصل الدين بالواقع ،وتطبّق مبدأ الاستمرارية في الإسلام (يُؤتِي الْحِكْمَة مَنْ يَشَاء وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَ ما يذَّكَّرُ إِلّا أُولُو الْأَلْبَاب) البقرة-269-
ــ العقل مناط التّكليف لأنّ التّكليف خطاب اللّه،ولا يتلقّى ذلك الخطاب إلا من يعقل بخلاف نحو المجنون والصّبي.
وفي هذا يقول الامام القرطبي - رحمه الله- والصّحيح الذي يعوّل عليه "أن التّفضيل إنّما كان بالعقل الذي هو عمدة التّكليف ،وبه يُعرف اللّه،ويُفهم كلامه،و يوصل الى نعيمه وتصديق رسله..."
وممّا لا شكّ فيه أيّها المؤمنون ان وراء نعمة العقل حكمة عظيمة، فاللّه سبحانه وتعالى ما خلق شيئا إلا وله دور وفائدة ،لذلك فقد حثّنا على استعمال العقل لإثبات وجوده وأهمّيته بحيث:
• دعا القرآن الى التّدبّر والتّفكّر و.النظر في كل ما يحيط بالانسان لإثبات الحقّ وإبطال الباطل.
• لم يأمر الله عباده أن يؤمنوا بشيء من دون بصيرة وتدبّر ( هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأتُونَ عَلُيْهِمْ بِسُلْطُانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمَ مِمَّن افْتَرَى عَلُى اللَّه كَذِبًا ) الكهف -15-
• حثّ القرآن على تحرير العقل ،وحذّر من الجمود والتّقليد الأعمى والخرافة والجهل.( وَإِذَا قِيلَ لَهُم اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعْ ما أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُم لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لاَ يَهْتَدُون ) البقرة -170-
• دعا القرآن إلى التّفكير والتّدبّر، وحثّ على الاجتهاد والاستنباط .( وَتِلْكَ الأَمْثُالُ نَضْرِبُهَا للنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلَّا الْعَالِمُون) العنكبوت -43-
• دعا القرآن إلى تطهير الإنسان من براثن الجاهليّة.
• حذر القرآن من الاعتماد على الظّن ،الذي لا يغني من الحق شيئا.( ألَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ في السَّمَوَاتِ وَمَنْ في الأَرْضِ وَ ما يَتّبِع الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلّا يَخْرُصُونْ ) يونس -66-
• كما ذكر القرآن مجموعة من الأحكام مقرونة بعلّتها لِيقوم العقل بالقِياس بها.
← ومع هذا الدور العظيم الذي منحه الشّارع الحكيم للعقل عباد اللّه ،إلاّ أنه قطع مرام العقل في الخوض فيما لا يصلح له ،ولا يمكن أن يكون له فيه دور في البحث،في الغيبيّات الخارجة عن نطاق تصوّر العقل لها وعلى رأسها قضية الأُلوهية بجوانبها الثلاثة ( الذات،الصّفات،الأفعال) .
فوَقَف دور العقل فيها على التّصديق بما جاء عن طريق الخبر الصّادق من الكتاب و السّنّة ،ومنع الشارع الحكيم في الخوض فيها،لأنه لا طاقة له للوصول إلى حقائق عينيّة في هذا الجانب .قال تعالى ( وّلّا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) طه-110-
ولأنّ قضيّة الألوهية ليست قضية من القضايا المحسوسة التي يمكن للعقل البحث فيها بناءا على ما يشاهده منها ومن أحوالها،فالعقل لم يشاهد هذه الأمور الغيبيّة إذن فلا يصلح له الكلام فيها،وقد بين الوحي قصور العقل في تصوّر مسائل الغيب في العديد من المناسبات في الكتاب والسّنّة،ومن هذه الأمثلة التي تتجلّى فيها هذه الحقيقة قول اللّه تعالى ( وَيَسْأَلُونَكَ عنِ الرّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِنَ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلا ) الإسراء -85-
لذلك فلنعلم أيّها المؤمنون ،انّ القرآن الكريم أمر باستعمال العقل في حدود ماخلق له وعدم تجاوز ذلك.
عندما يصل التفكير إلى الكيفيّات في مسائل العقيدة مثل كيفيّات الأسماء والصَّفات،فيجب أن يقف ويعلم أنّ هذا هو حدّه.
وممّا هو فوق إدراك العقل: حكمة اللّه التعبّدية إلاّ ما كشفه اللّه لنا .
ولهذا جاء الإسلام بالإيمان بالغيب حتى لا يبدّد الناس طاقاتهم العقليّة فيما لا طائل تحته.
كما ذكرنا سلفا أنّ العقل أساس إنسانية الإنسان وقوام فطرته و مناط التّكليف وهو المحل الذي تنبجس منه حضارة الأمة و الضّامن لعزّتها وشهادتها على الناس.
والأهم أن العقل هو أحد الكلّيات الخمس التي جاء بها الإسلام (الدّين،النّفس،العقل،النسل،والمال).ومن هنا وجب المحافظة عليه وعدم تعريضه للتّلف صيانةً لحقّ اللّه فيه،وقد شرّع لحفظ العقل جانبان،كما قال الامام الشاطبي-رحمه اللّه- " وقد جاءت الشريعة بحفظ العقل من جهتي الوجود والعدم"
أوّلا: حفظ العقل من جانب الوجود:وذلك
ــ بتحرير العقل البشري من رق التقليد ومن ثم فتح للعقل باب النّظر بما يعود بالمنفعة مثل النظر في خلق اللّه سبحانه وتعالى.
ــ تنمية المدارك العقلية بالتّفكّر والتّدبّر،فكثيرا ما يدعو القرآن إلى النظر العقلي والتّفكّر لاستخراج الأسرار الكونيّة.قال تعالى(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السّمَوُات وَالْأَرْضِ وَ مَا خَلَقَ اللَّه مِنْ شَيْء) الأعراف - من الآية185-
ــ طلب العلم ،فالعلم يكون سببا في إحاطة الإنسان لبعض قدرة اللّه عزّوجلّ ممّا يجعله يشعر بالخوف منه، فأساس عبادة اللّه والثّبات على الطّاعة هو الخوف من الله تبارك وتعالى،ولا يكون كل ذلك إلاّ إذا علم الإنسان قدرة اللّه عزّوجلّ وعقلها جيَّدا.
ثانيا: حفظ العقل من جانب العدم :
حيث حرّم الشارع الحكيم كل ما يُعطِّل العقل من خمر،ومخدّرات قال تعالى( إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تفْلحُون) المائدة - من الآية90-
كما منع كل ما من شأنه أن يشغل العقل عن مهامه، فلا يقتصر حفظ العقل على تحريم المسكرات فقط،بل يتعدّاه إلى كلّ ما يشلّ طاقته وحركته الفكريّة وتحول بينه وبين أداء وظيفته التي خلقه اللّه من أجلها،فمن وسائل حفظه أن يمنع ولي الأمر انتشار العلوم الضّالّة بين العوام لأنّها تؤدّي إلى نشر الإنحراف في التفكير. كما حرّم كل ما من شأنه الإنقاص من قيمة العقل كعبادة الأصنام والإيمان بالخرافات وحرّم الغلو والإنحراف الفكري.
وفق اللّه الجميع لبدائع العقول،وتلقّى أعمالنا وأقوالنا بالإخلاص والرّضا والقبول،إنّه خير مسؤول وأكرم مأمول.
فاستغفروا اللّه عباد اللّه وتوبوا إليه، ألا انّه هو الغفور الرّحيم.