سمط الدرر
يأخبار مولد خير البشر وماله من أخلاق
للإمام علي بن محمد بن حسين الحبشي
الصلاة الأولى
ما لاح في الأفق نور كوكب يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
الفاتــح الخاتـــم المـقـــــرب يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
المصطفـى المجتبى المحبـب يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
ما لاح بــدرٌ و غاب غيهـــب يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
ما ريح نصـرٍ بالنصر قد هب يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
ما سارت العيسُ بطن سبسب يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
وكــل مـن للحبيـــب ينســــب يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
وكـــل مـن للنبـــي يصحــب يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
و اغفر وسامح من كان أذنـب يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
وبلـــغ الكـــل كـــل مطلـــب يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
واسلــك بنـا رب خير مذهـب يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
واصلح وسهــل ما قد تصعب يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
أعلى البـرايا جـاهـا وأرحـب يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
أصــدق عبــدٍ بالحـقِ أعــرب يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
خير الورى منهجــاً وأصـوب
يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
ما طيــــر يُمنٍ غنَّى فأطــرب
يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
الصلاة الثانيــــة
أشرف بدرٍ في الكون أشرق يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
أكرم داعٍ يدعوا إلى الحـــق يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
المصطفى الصادق المصـدق يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
أحلى الــورى منطقاً وأصدق يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
أفضــل مـــن بالتقــى تحقـق يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
من بالسخــا و الوفـــاء تخلـق يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
واجمـــع من الشمل ما تفرق يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
و اصلــح وسهل ما قد تعوق يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
و افتـــح من الخير كل مغلق يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
وآلـــه ومـن بالنبـــي تعلــــق يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
وآلــه ومن للحبيــب يعشـــق يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
و مــن بحبـل النبـــي توثـــق يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
يــا رب صــــل عليـه وسلــم يَا رَبِّ صَـلِّ عَلـَى مُحَمَّـد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القوي سلطانه ، الواضح برهانه ، المبسوط في الوجود كرمه وإحسانه ، تعالى مجده وعظم شأنه ، خلق الخلق لحكمه ، وطوى عليها علمه ، وبسط لهم من فائض المنَّة ما جرت به في أقداره القسمة ، فأرسل إليهم أشرف خلقه وأجلَّ عبيده رحمه ، تعلقت إرادته الأزلية بخلق هذا العبد المحبوب ، فانتشرت آثار شرفه في عوالم الشهادة والغيوب ، فما أجل هذا المن الذي تكرم به المنان ، وما أعظم هذا الفضل الذي برز من حضرة الإحسان ، صورة كاملة ظهرت في هيكل محمود ، فتعطرت بوجودها أكناف الوجود ، وطـَرَّزَت بُردَ العوالم بطراز التكريم ..
على سيدنا ونبينا محمد الرؤوف الرحيم اللهم صل وسلم أشرف الصلاة والتسليم
تجلى الحق في عالم قدسه الواسع ، تجلياً قضى بانتشار فضله في القريب والشاسع ، فله الحمد الذي لا تنحصر أفراده بتعداد ، ولا يمل تكراره بكثرة ترداد ، حيث أبرز من عالم الإمكان ، صورة هذا الإنسان ، ليتشرف بوجوده الثقلان ، وتنتشر أسراره في الأكوان ، فما من سر اتصل به قلب منيب ، إلا من سوابغ فضل الله على هذا الحبيب ..
بحبــيـــب عم الأنــام نـــــوالا يا لقلب ســـروره قـــد تــوالى
غمـر الكون بهجـــة وجمـــالاً جل من شرف الوجـــود بنــور
و تناهـى في مجـــده و تعالــى قد ترقى في الحسن أعلى مقام
بشــراً كامــلاً يزيـح الضـــلالا لاحظته العيـــون فيمـا اجتلتــه
رفعـــة في شـــؤونـــه وكمــالا وهو من فوق علم ما قــد رأته
فسبحان الذي أبرز من حضرة الامتنان ، مايعجز عن وصفه اللسان ويحار في تعقل معانيه الجنان ، انتشر منه في عالم البطون والظهور ، ما ملأ الوجود الخلقي نور ، فتبارك الله من إله كريم ، بشرتنا آياته في الذكر الحكيم ، ببشارة (( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ )) فمن جاءته هذه البشارة وتلقاها بقلب سليم فقد هدي إلى صراط مستقيم .
على سيدنا ونبينا محمد الرؤوف الرحيم اللهم صل وسلم أشرف الصلاة والتسليم
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يعرب بها اللسان ، عما تضمنه الجنان ، من التصديق بها والإذعان ، تثبت بها في الصدور من الإيمان قواعده ، وتلوح على أهل اليقين من سر ذلك الإدعان والتصديق شواهده ، وأشهد أن سيدنا محمداً العبد الصادق في قوله وفعله ، والمبلغ عن الله بتبليغه لخلقه من فرضه ونفله ، عبد أرسله الله للعالمين بشيراً ونذيراً ، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وهدى الله به الأمة بشراً كثيراً ، فكان في ظلمة الجهل للمستبصرين سراجاً من نعمة انتشر سرها في البحر والبر ، اللهم صل وسلم بأجل الصلوات وأجمعها وأزكى التحيات وأوسعها ، على هذا العبد الذي وفى بحق العبودية ، وبرز فيها في خلعة الكمال ، وقام بحق الربوبية في مواطن الخدمة لله وأقبل عليه غاية الإقبال ، صلاة يتصل بها روح المصلي عليه به ، فينبسط في قلبه نور سر تعلقه به وحبه ، ويكتب بها بعناية الله في حزبه ، وعلى آله وصحبه الذين ارتقوا صهوة المجد بقربه ، وتفيأوا ظلال الشرف الأصلي بوده وحبه ، ماعطر الأكوان بنشر ذكراهم نسيم ..
على سيدنا ونبينا محمد الرؤوف الرحيم اللهم صل وسلم أشرف الصلاة والتسليم
(أما بعد) فلما تعلقت إرادة الله في العلم القديم ، بظهور أسرار التخصيص للبشر الكريم ، بالتقديم والتكريم ، نفذت القدرة الباهرة ، بالنعمة الواسعة والمنة الغامرة ، فانفلقت بيضة التصوير في العالم المطلق الكبير عن جمال مشهود بالعين ، حاو لوصف الكمال المطلق والحسن التام والزين ، فتنفل ذلك الجمال الميمون ، في الأصلاب الكريمة والبطون ، فما من صلب ضمه إلا وتمت عليه من الله النعمة ، فهو القمر التام الذي ينتقل في بروجه ، ليتشرف به موطن استقراره وموضع خروجه ، وقد قضت الأقدار الأزلية بما قضت ، وأظهرت من سر هذا النور ما أظهرت ، وخصصت به من خصصت ، فكان مستقره في الأصلاب الفاخرة ، والأرحام الشريفة الطاهرة ، حتى برز في عالم الشهادة بشراً لا كالبشر ، ونوراً حير الأفكار ظهوره وبهر ، فتعلقت همة الراقم لهذه الحروف ، بأن يرقم في هذا القرطاس ماهو لديه من عجائب ذلك النور معروف ، وإن كانت الألسن لا تفي بعشر معشار أوصاف ذلك الموصوف ، تشويقاً للسامعين ، من خواص المؤمنين ، وترويحاً للمتعلقين بهذا النور المبين ، وإلا فأنى تعرب الأقلام عن شؤون خير الأنام ، ولكن هزني إلى تدوين ما حفظته من سير أشرف المخلوقين ، وما أكرمه الله به في مولده من الفضل الذي عم العالمين ، وبقيت رايته في الكون منشورة على مر الأيام والشهور والسنين ، داعي التعلق بهذه الحضرة الكريمة ، ولاعج التشوق إلى سماع أوصافها العظيمة ، ولعل الله ينفع به المتكلم والسامع ، فيدخلان في شفاعة هذا النبي الشافع ، ويتروحان بروح ذلك النعيم ..
على سيدنا ونبينا محمد الرؤوف الرحيم اللهم صل وسلم أشرف الصلاة والتسليم
وقد آن للقلم أن يخط ماحركته فيه الأنامل ، مما استفاده الفهم من صفات هذا العبد المحبوب الكامل ، وشمائله التي هي أحسن الشمائل ، وهنا حسن أن نثبت ما بلغ إلينا في شأن هذا الحبيب من أخبار وآثار ، ليتشرف بكتابته القلم والقرطاس وتتنزه في حدائقه الأسماع والأبصار ، وقد بلغنا في الأحاديث المشهورة ، أن أول شئ خلقه الله هو النور المودع في هذه الصورة ، فنور هذا الحبيب أول مخلوق برز في العالم ، ومنه تفرع الوجود خلقاً بعد خلق فيما حدث وما تقدم ، وقد أخرج عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال : (( قلت يا رسول الله بأبي وأمي أخبرني عن أول شئ خلقه الله قبل الأشياء ، قال : " يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك محمد صلى الله عليه وسلم من نوره " )) ، وقد ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث )) ، وقد تعددت الروايات بأنه أول الخلق وجوداً وأشرفهم مولوداً ، ولما كانت السعادة الأبدية ، لها ملاحظة خفية ، اختصت من شاءت من البرية ، بكمال الخصوصية ، فاستودعت هذا النور المبين ، أصلاب وبطون من شرفته من العالمين ، فتنقل هذا النور من صلب أدم ونوح وإبراهيم ، حتى أوصلته يد العلم القديم ، إلى من خصصته بالتكريم أبيه الكريم ، عبد الله بن عبد المطلب ذي القدر العظيم ، وأمه التي هي في المخاوف آمنة ، السيدة الكريمة آمنة ، فتلقاه صلب عبد الله فألقاه إلى بطنها ، فضمته أحشاؤها بمعونة الله محافظة على حق هذه الدرة وصونها ، فحملته برعاية الله كما ورد عنها حملاً خفيفاً لا تجد له ثقلاً ، ولا تشكو منه ألماً ولا عللاً حتى مر الشهر من حمله ، وقرب وقت بروزه إلى عالم الشهادة لتنبسط على أهل هذا العالم فيوضات فضله ، وتنتشر فيه آثار مجده الصميم ..
على سيدنا ونبينا محمد الرؤوف الرحيم اللهم صل وسلم أشرف الصلاة والتسليم
ومنذ علقت به هذه الدرة المكنونة ، والجوهرة المصونة ، والكون كله يصبح ويمسي في سرور وابتهاج ، بقرب ظهور إشراق هذا السراج ، والعيون متشوقة إلى بروزه ، متشوقة إلى التقاط جواهر كنوزه ، وكل دابة لقريش نطقت بفصيح العبارة ، معلنة بكمال البشارة ، وما من حامل حملت في ذلك العام ، إلا أتت في حملها بغلام ، من بركات وسعادة هذا الإمام ، ولم تزل الأرض والسماوات ، متضخمة بعطر الفرح بملاقاة أشرف البريات ، وبروزه من عالم الخفاء إلى عالم الظهور ، بعد تنقله في البطون والظهور ، فأظهر الله في الوجود بهجة التكريم ، وبسط في العالم الكبير مائدة التشريف والتعظيم ، ببروز هذا البشر الكريم .
على سيدنا ونبينا محمد الرؤوف الرحيم اللهم صل وسلم أشرف الصلاة والتسليم
فحين قرب أوان وضع هذا الحبيب ، أعلنت السماوات والأرضون ومن فيهن بالترحيب ، وأمطار الجود الإلهي على أهل الوجود تثج ، وألسنة الملائكة بالتبشير للعالمين تعج ، والقدرة كشفت قناع هذا المستور ، ليبرز نوره كاملاً في عالم الظهور ، نوراً فاق كل نور ، وأنفذ الحق حكمه ، على من أتم الله عليه النعمة ، من خواص الأمة ، أن يحضر عند وضعه أمه ، تأنيساً لجنابها المسعود ، ومشاركة لها في هذا السماط الممدود ، فحضرت بتوفيق الله السيدة مريم والسيدة آسية ، ومعها من الحور العين من قسم الله له من الشرف بالقسمة الوافية ، فأتى الوقت الذي رتب الله على حضوره وجود هذا المولود ، فانفلق صبح الكمال من النور عن عمود ، وبرز الحامد المحمود ، مذعناً لله بالتعظيم والسجود ..
بوجــــود المصطفى أحمد أشرق الكــــون ابتهـــاجــاً
و ســـــرور قـــد تجــــدد و لأهـــل الكــــون أنــــس
فــهــــزار اليُمـــن غـــرد فاطربـوا يا أهـــل المثانــي
فــــاق في الحسـن تفـــرد واستضيــئــوا بــجــمــــال
مستمـــر ليــــس ينـــفـــذ و لنـــا البــشــرى بسعــــد
جمـــع الفخــــر المؤبـــد حــيــث أوتيــنــا عطـــــاء
جـــل أن يحصـره العـــد فلـــربــــي كـــــل حمــــد
ــمصطفى الهــادي محمد إذ حبــانـــا بــوجـــود الــ
بـــك إنـــا بـــك نُســعـــد يـــا رســـــول الله أهـــلاً
جـــد و بلـغ كل مقصــــد و بجاهــــه يــا إلهـــــــي
كـــي بـه نسعد و نرشـــد و اهــــدنـا نهـــج سبيلـــه
فــي جـــواره خير مقعــد رب بلغــــنـــا بـجــاهـــه
أشـــرف الــرسل محمـــد و صـــلاة الله تغـــشـــى
كــــل حـــيــــن يـتـجـــدد و ســـلام مســتـــــمــــر
وحين برز صلى الله عليه وسلم من بطن أمه برز رافعاً طرفه إلى السماء ، مؤمياً بذلك الرفع إلى أن له شرفاً علا مجده وسما ، وكان وقت مولد سيد الكونين ، من الشهور شهر ربيع الأول ومن الأيام يوم الإثنين ، وموضع ولادته وقبره بالحرمين ، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم ولد مختوناً مكحولاً مقطوع السُرَّة ، تولت ذلك لشرفه عند الله أيدي القدرة ، ومع بروزه إلى هذا العالم ظهر من العجائب ، ما يدل على أنه أشرف المخلوقين وأفضل الحبائب ، فقد ورد عن عبد الرحمن بن عوف عن أمه الشفاء رضي الله عنهما قالت : لما ولدت آمنة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع على يدي فاستهل فسمعت قائلاً يقول : رحمك الله أو رحمك ربك ، قالت : الشفاء : فأضاء له ما بين المشرق والمغرب ، حتى نظرت إلى بعض قصور الروم ، قالت : ثم ألبسته وأضجعته فلم أنشب أن غشيتني ظلمة ورعب وقشعريرة عن يميني ، فسمعت قائلاً يقول : أين ذهبت به ؟ قال : إلى المغرب ، وأسفر ذلك عنٍّي ، ثم عاودني الرعب والظلمة والقشعريرة عن يساري ، فسمعت قائلاً يقول : أين ذهبت به ؟ قال : إلى المشرق ، قالت : فلم يزل الحديث منِّي على بال حتى ابتعثه الله ، فكنت من أول النَّاس إسلاماً ، وكم ترجمت السُّنَّة من عظيم المعجزات ، وباهر الآيات البينات ، بما يقضي بعظيم شرفه عند مولاه ، وأن عنايته في كل حين ترعاه وأنه الهادي إلى الصراط المستقيم.
على سيدنا ونبينا محمد الرؤوف الرحيم اللهم صل وسلم أشرف الصلاة والتسليم
ثم إنه صلى الله عليه وسلم بعد أن حكمت القدرة بظهوره ، وانتشرت في الأكوان لوامع نوره ، تسابقت إلى رضاعه المرضعات ، وتوافرت رغبات أهل الوجود في حضانة هذه الذات ، فنفذ الحكم من الحضرة العظيمة بواسطة السوابق القديمة ، بأ، الأولى بتربية هذا الحبيب وحضانته السيدة حليمة ، وحين لاحظته عيونها ، وبرز في شأنها من أسرار القدرة الربانية مكنونها عند الله حظ موفور ، فحضنت عليه حنو الأمهات على البنين ، ورغبت في رضاعه طمعاً في نيل بركاته التي شملت العالمين ، فطلبت من أمه الكريمة ،أن تتولى رضاعه وحضانته وتربيته بالعين الرحيمة ، فأجابتها بالتلبية لداعيها ، لما رأت من صدقها في حسن التربية ووفور دواعيها ،فترحلت به إلى منازلها مسروره ، وهي برعاية الله محفوفة وبعين عنايته منظورة ، فشاهدت في طريقها من غريب المعجزات ، ما دلَّها على أنه أشرف المخلوقات ، فقد أتت وشارفها وأتانها ضعيفتان ، ورجعت وهما لدواب القافلة يسبقان ، وقد درت الشارف والشياه من الألبان بما حير العقول والأذهان ، وبقي عندها في حضانتها وزوجها سنتين ، تتلقى من بركاته وعجائب معجزاته ما تقر به العين ، وتنتشر أسراره في الكونين ، حتى واجهته ملائكة التخصيص والإكرام ، بالشرف الذي عمت بركته الأنام ، وهو يرعى الأغنام ، فأضجعوه على الأرض إضجاع تشريف ، وشقُّوا بطنه شقًّا لطيف ، ثم أخرجوا من قلبه ما أخرجوه وأودعوا فيه من أسرار العلم والحكمة ما أودعوه ، وما أخرج الأملاك من قلبه أذىً ولكنَّهم زادُوهُ طُهراً على طُهرٍ ..
وهو في ذلك في قوة وثبات ، يتصفح من سطور القدرة الإلهية باهر الآيات ، فبلغ إلى مرضعته الصالحة العفيفة ، ما حصل على ذاته الشريفة ، فتخوَّفت عليه من حادث تخشاه ، ولم تدر أنه ملاحظ بالملاحظة التامة من مولاه ، فردته إلى أمه وهي غير سخيَّةٍ بفراقه ، ولكن لما قام معها من حزن القلب عليه وإشفاقه ، وهو بحمد الله في حصنٍ مانعٍ ومقامٍ كريم ..
على سيدنا ونبينا محمد الرؤوف الرحيم اللهم صل وسلم أشرف الصلاة والتسليم
فنشأ صلى الله عليه وسلم على أكمل الأوصاف ، يحفظه من الله جميل الرعاية وغامر الألطاف ، فكان يشبُّ في اليوم شباب الصبي في الشهر ، ويظهر عليه في صباه من شرف الكمال ما يشهد له بأنه سيد ولد آدم ولا فخر ، ولم يزل وأنجم سُعُودِهِ طالعه ، والكائنات لعهده حافظة ولإمره طائعة ، فما نفث على مريض إلا شفاه الله ، ولا توجه في غيث إلا وأنزله مولاه ، حتى بلغ من العمر أشدَّه ، ومضت له من ست الشباب والكهولة مُدَّة ، فأجأته الحضرة الإلهية بما شرَّفته به وحده ، فنزل عليه الروح الأمين ، بالبشرى من رب العالمين ، فتلا عليه لسان الذكر الحكيم شاهد : (( وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ )) ، فكان أول ما نزل عليه من تلك الحضرة من جوامع الحكم ، قوله تعالى : (( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الإْنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَْكْرَمُ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَْكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الإِْنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )) فما أعظمها من بشارةٍ أوصلتها يد الإحسان ، من حضرة الامتنان ، إلى هذا الإنسان ، وأيدتها بشارة (( الرَّحْمَنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ ، خَلَقَ الإِْنْسَانَ ))
على سيدنا ونبينا محمد الرؤوف الرحيم اللهم صل وسلم أشرف الصلاة والتسليم
ثم إنه بعد ما نزل عليه الوحي البليغ ، تحمل أعباء الدعوة والتبليغ ، فدعا الخلق إلى الله على بصيرة ، فأجابه بالإذعان من كانت له بصيرة منيرة ، وهي إجابة سبقت بها الأقضية والأقدار ، تشرف بالسبق إليها المهاجرون والأنصار ، وقد أكمل الله بهمة هذا الحبيب وأصحابه هذا الدين ، وأكبت بشدة بأسهم قلوب الكافرين والملحدين ، فظهر على يديه من عظيم المعجزات ، ما يدل على أنًّـه أشرف أهل الأرض والسماوات ، فمنها تكثير القليل ، وبرء العليل ، وتسليم الحجر ، وطاعة الشجر ، وانشقاق القمر ، والإخبار بالمغيبات ، وحنين الجذع الذي هو من خوارق العادات ، وشهادة الضب له والغزالة ، بالنبوة والرسالة ، إلى غير ذلك من باهر الآيات وغرائب المعجزات ، التي أيده الله بها في رسالته ، وخصصه بها من بين بريته ، وقد تقدمت له قبل النبوة إرهاصات ، هي على نبوته ورسالته من أقوى العلامات ، ومع ظهورها وانتشارها سعد بها الصادقون من المؤمنين ، وشقي بها المكذبون من الكافرين والمنافقين ، وتلقاها بالتصديق والتسليم ، كل ذي قلب سليم ..
على سيدنا ونبينا محمد الرؤوف الرحيم اللهم صل وسلم أشرف الصلاة والتسليم
ومن الشرف الذي اختص الله به أشرف رسول ، معراجه إلى حضرة الله البرّ الوصول ، وظهور آيات الله الباهرة في ذلك المعراج ، وتشرُّف السماوات ومن فوقهن بإشراق نور ذلك السراج ، فقد عرج الحبيب صلى الله عليه وسلم ومعه الأمين جبريل ، إلى حضرة الملك الجليل ، مع التشريف والتبجيل ، فما من سماء ولجها إلا وبادره أهلها بالترحيب والتكريم والتأهيل ، وكل رسول مر عليه ، بشره بما عرفه من حقه عند الله وشريف منزلته لديه ، حتى جاوز السبع الطباق ، ووصل إلى حضرة الإطلاق ، نازلته من الحضرة الإلهية ، غوامر النفحات القربية ، وواجهته بالتحيات ، وأكرمته بجزيل العطيات ، وأولته جميل الهبات ، ونادته بشريف التسليمات ، بعد أن أثنى على تلك الحضرة بالتحيات المباركات الصلوات الطيبات ، فيا لها من نفحات غامرات ، وتجليات عاليات في حضرات باهرات ، تشهد فيها الذات للذات ، وتتلقى عواطف الرحمات ، وسوابغ الفيوضات بأيدي الخضوع والإخبات ..
دونها ما وراءهن وراء رب تسقط الأماني حسرى
عقل الحبيب صلى الله عليه وسلم في تلك الحضرة من سرها ما عقل ، واتصل من علمها بما اتصل ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ، ما كذب الفؤاد ما رأى ، فما هي إلا منحة خصصت بها حضرة الامتنان ، هذا الإنسان ، وأولته من عواطفها الرحيمة ما يعجز عن حمله الثقلان ، وتلك مواهب لا يجسر القلم على شرح حقائقها ، ولا تستطيع الألسن أن تعرب عن خفي دقائقها ، خصصت بها الحضرة الواسعة ، هذه العين الناظرة والأذن السامعة ، فلا يطمع طامع في الاطلاع على مستورها ، والإحاطة بشهود نورها ، فإنها حضرة جلت عن نظر الناظرين ، ورتبة عزت على غير سيد المرسلين ، فهنيئاً للحضرة المحمدية ، ما واجهها من عطايا الحضرة الأحدية ، وبلوغها إلى هذا المقام العظيم ..
على سيدنا ونبينا محمد الرؤوف الرحيم اللهم صل وسلم أشرف الصلاة والتسليم
وحيث تشرفت الأسماع بأخبار هذا الحبيب المحبوب ، وما حصل له من الكرامة في عوالم الشهادة والغيوب ، تحركت همة المتكلم إلى نشر محاسن خلق هذا السيد وأخلاقه ، ليعرف السامع ما أكرمه الله به من الوصف الحسن والخلق الجميل الذي خصصته به عناية خلاَّقه ، فليقابل السماع ما أمليه عليه من شريف الأخلاق بأذن واعية ، فإنه سوف يجمعه من أوصاف الحبيب على الرتبة العالية ، فليس يشابه هذا السيد في خلقه وأخلاقه بشر ، ولا يقف أحد من أسرار حكمة الله في خَلقِهِ وخُلُقِهِ على عينٍ ولا أثر ، فإن العناية الأزلية ، طبعته على أخلاق سنية ، وأقامته في صورة حسنة بدرية ، فلقد كان صلى الله عليه وسلم مربوع القامة ، أبيض اللون مشرباً بحُمرة ، واسع الجبين حسنه ، شعرُهُ بين الجُمَّة والوفرة ، وله الاعتدال الكامل في مفاصله وأطرافه ، والاستقامة الكاملة في محاسنه وأوصافه ، لم يأت بشر على مثل خلقه ، في محاسن نظره وسمعه ونطقه ، قد خلقه الله على أجمل صورة ، فيها جميع المحاسن محصورة ، وعليها مقصورة ، إذا تكلم من المعارف والعلوم نفائس الدرر ، ولقد أوتي من جوامع الكلم ما عجز عن الإتيان بمثله مصاقع البلغاء من البشر ، تتنزه العيون في حدائق محاسن جماله ، فلا تجد مخلوقاً في الوجود على مثاله ..
ــي الهـــوينا ونومـه الإغفـــاء سيـد ضحكُــهُ التبســم والمشــــ
ــــر مُحيـَّاه الرَّوضـــةُ الغنـَّـاءُ ما سـوى خُلقِهِ النَّسيــمُ ولا غيــ
ووقــــار وعصمـــةٌ وحــيـــاءُ رحمـــةٌ كـُلـُّـهُ وحــزمٌ وعـــزمٌ
الخـَلـقِ والخـُلـقِ مـُقسِطٌ مِعطَاءُ معجـــز القـــول والفِعَالِ كريـمُ
وإذا مشى فكأنما ينحطُّ من صبب ، فيفوت سريع المشي من غير خبب ، فهو الكنز المُطلسم الذي لا يأتي على فتح باب أوصافِهِ مفتاح ، والبدر التِّـمُّ الذي يأخُذُ الألباب إذا تخيَّلتهُ أو سَنَاه لها لاح ..
تحيَّرتِ الألباب في وصفِ معناه حبيب يغارُ البَدرُ من حُسنِ وجهِهِ
فماذا يُعربُ القولُ عن وصفٍ يُعجزُ الواصفين ، أو يُدركُ الفهمُ معنى ذاتٍ جَلَّت أن يكون لها في وصفها مُشاركٌ أو قرين ..
و أوســــع فضلـــهُ العميـــم فمــــا أَجَـلَّ قـــدره العظيـــم
على سيدنا ونبينا محمد الرؤوف الرحيم اللهم صل وسلم أشرف الصلاة والتسليم
ولقد اتصف صلى الله عليه وسلم من محاسن الأخلاق ، بما تضيق عن كتابته بطون الأوراق ، كان صلى الله عليه وسلم أحسن النـَّـاس خـُلـُقاً وخـَلـَقاً ، وَأَوَّلَهُم إلى مَكـَارم الأخلاق سبقاً ، وأوسَعَهُم بالمؤمنين حِلماً ورفقاً ، برًّا رؤوفاً ، لا يقُولُ ولا يفعلُ إلا معروفاً ، لهُ الخُلُقُ السَّهلُ ، واللَّفظُ المحتوي على المعنى الجزلُ ، إذا دعاهُ المسكينُ أجابهُ إجابةً مُعجَّلة ، وهو الأب الشفيق الرحيم باليتيم والأرملة ، وله مع سهولة أخلاقه الهيبة القوية ، التي ترتعد منها فرائصُ الأقوياء من البرية ، ومن نشر طيبه تعطرت الطرق والمنازل ، وبعرف ذكره تطيبت المجالس والمحافل ، فهو صلى الله عليه وسلم جامع الصفات الكمالية ، والمنفرد في خلقِهِ وخُلُقِهِ بأشرفِ خُصوصيَّة ، فما من خُلُقٍ في البرية محمود ، إلا وهو مُتلقَّى عن زين الوجود ..
وله العلافي مجده ومكانه أجملت في وصف الحبيب وشأنه
أخذت على نجم السُّها بعنانه أوصاف عزٍّ قد تعالى مجدُها
وقد انبسط القلم في تدوين ما أفاده العلم من وقائع مولد النبي الكريم ، وحكاية ما أكرم الله به هذا العبد المقرب من التكريم والتعظيم والخلق العظيم ، فحسن منِّي أن أمسك أعنَّةَ الأقلام ، في هذا المقام ، وأقرأ السلام على سيد الأنام ..
وبذلك يحسن الختم كما يحسن التقديم فعليه أفضل الصلاة والتسليم السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ثلاثاً
على سيدنا ونبينا محمد الرؤوف الرحيم اللهم صل وسلم أشرف الصلاة والتسليم
ولمَّا نَظَم الفكر من دراري الأوصاف المحمدية عقوداً ، توجهت إلى الله متوسلاً بسيدي وحبيبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يجعل سعيي فيه مشكوراً وفعلي فيه محموداً ، وأن يكتب عملي في الأعمال المقبولة ، وتوجهي في التوجهات الخالصة والصلات الموصولة ، اللهم يا من إليه تتوجه الآمال فتعود ظافرة ، وعلى باب عزته تحط الرحال فتغشاها منه الفيوضات الغامرة ، نتوجه إليك ، بأشرف الوسائل لديك ، سيد المرسلين ، عبدك الصادق الأمين ، سيدنا محمد الذي عمَّت رسالته العالمين ، أن تصلي وتُسلٍّم على تلك الذات الكاملة ، مستودع أمانتك وحفيظ سرك ، وحامل راية دعوتك الشَّاملة ، الأب الأكبر المحبوب لك والمُخصَّصِ بالشَّرفِ الأفخر ، في كُلِّ موطنٍ من مواطن القرب ومظهر ، قاسم إمدادك في عبادك ، وساقي كؤوس إرشادك لأهل ودادك ، سيد الكونين ، وأشرف الثقلين ، العبد المحبوب الخالص ، المخصوص منك بأجل الخصائص ..
اللهم صلٍّ وسلٍّم عليه وعلى آله وأصحابه ، وأهل حضرة اقترابه من أحبابه ، اللهم إنا نُقدم إليك جاه هذا النبي الكريم ، ونتوسل إليك بشرف مقامه العظيم ، أن تلاحظنا في حركاتنا وسكناتنا بعين عنايتك ، وأن تحفظنا في جميع أطوارنا وتقلباتنا بجميل رعايتك ، وحصين وقايتك ، وأن تبلغنا من شرف القرب إليك وإلى هذا الحبيب غاية آمالنا ، وتتقبل منّا ما تحرَّكنا فيه من نيَّاتنا وأعمالنا ، وتجعلنا في حضرة هذا الحبيب من الحاضرين ، وفي طرائق اتباعه من السالكين ، ولحقك وحقه من المؤدين ، ولعهدك من الحافظين ..
اللهم إنا لنا أطماعاً في رحمتك الخاصة فلا تحرمنا ، وظنوناً جميلة هي وسيلتنا إليك فلا تخيبنا ، آمنا بك وبرسولك وما جاء به من الدين ، وتوجهنا به إليك مستشفعين ، أن تقابل المذنب منّا بالغفران ، والمسئ بالإحسان ، والسائل بما سأل ، والمؤمل بما أمل ، وأن تجعلنا ممن نصر هذا الحبيب ووازره ، ووالاه وظاهره ، وعُـمَّ ببركته وشريف وجهته أولادنا ووالدينا ، وأهل قطرنا ووادينا ، وجميع المسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات ، في جميع الجهات ، وأدم راية الدين القويم في جميع الأقطار منشورة ، ومعالم الإسلام والإيمان بأهلها معمورة ، معنى وصورة ، واكشف اللهم كربة المكروبين ، واقض دين المدينين ، واغفر للمذنبين ، وتقبل توبة التائبين ، وانشر رحمتك على عبادك المؤمنين أجمعين ، واكف شر المعتدين والظالمين ، وابسط العدل بولاة الحق في جميع النَّواحي والأقطار ، وأيدهُم بتأييدٍ من عندك ونصر على المعاندين من المنافقين والكُفار ، واجعلنا يارب في الحصن الحصين من جميع البلايا ، وفي الحرز المكين من الذنوب والخطايا ، وأدمنا في العمل بطاعتك والصدق في خدمتك قائمين ، وإذا توفيتنا فتوفَّنا مسلمين مؤمنين ، واختم لنا منك بخير أجمعين ..
وصل وسلم على هذا الحبيب المحبوب ، للأجسام والأرواح والقلوب ، وعلى آله وصحبه ومن إليه منسوب ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..
انتهى ..