صناعة سلال القصب تراث
طبول حرفة صناعة "سلال القصب" قرعت، فالخطر وشيك من رحيلها، وإنقراضها من بلدة كانت حتى الامس القريب أميرتها...في "كفريا" البلدة التي كانت كل منازلها العتيقة تعمل في صناعة سلال القصب نفضت يدها منها، وحده جرجس طنوس وإثنين أخرين لم يتقاعدو من هذه الحِرفة التي عشقوها حتى الموت.
وأبو طوني "74 عاماً" واحد ممن يواظبون على حرفة الجدود، حرفة يراها "فن حياكة القصب في تراص متوازن"، تعلم جرجس حياكة سلال القصب مذ كان في العاشرة من عمره "كانت عائلتي وكل منازل كفريا يحيكون القصب سلالا بأشكال وأحجام مختلفة، كانت السلال مهمة جدا بالنسبة للبستاني والتاجر والمزارع، وكان والدي ينهمك لشهور في إنجاز الطلبيات التي تنتظر الدور" فقد راجت في زمن "عز" الزراعة وكانت السلال صديقة المزارع أينما حل.
وسلال القصب موروث حرفي "عتيق" ونادر يعود الى عصور قديمة رافقت نشأة العديد من الحضارات المندثرة، ولا سيما في المناطق القريبة والمحيطة بالأنهار وأماكن توافر الماء كالجداول والمستنقعات. وهي لا توجد إلا في مناطق محددة من لبنان، أهمها عمشيت، وكواشرا، وزغرتا وكفريا الجنوبية. وتختلف أشكالها بحسب مكان استخدامها، كما تستخدم في بعض المنازل كزينة تراثية.
حِرفة إلى زوال
ولكن أين تقع الحرفة اليوم على خارطة الحرف الجنوبية تحديدا؟ وأي مصير ينتظرها؟ وما هو مؤشرها الاقتصادي في دورة الإنتاج؟ الإجابة واضحة وصريحة في جعبة صانعي الحرفة "مصيرها محتوم كما إخوتها الحرف، لا من يسأل ولا يهتم، والشباب بالها في التطور ولا يعن لها من حِرف الماضي شيئا" يقول جرجس .
في تسعينات القرن الماضي "بدأ عصر تراجع الحرفة إبان التهجير" يقول طنوس الذي نقل حرفته معه الى كفرحونة الجنوبية،حيث إستقر فيها وعمل أيضا "لأنني كنت بحاجة للعمل، كنت موظف في مصلحة الليطاني، وتقاعدت ولكن لم أتقاعد عن حرفتي حتى اموت"يؤكد طنوس الذي يواظب على حرفته في كفريا "حتى رمقي الأخير" في منزله يجلس أرضاً وبقربه مبعثرة السلال المنجزة فيما هو منهمك في إنجاز سلة أخرى، بخداقة بالغة تتحرك أنامله، تطوع القصب بسلاسلة، ثوان معدوة وينجز سلة "غاية في الدقة والجمال".
وحرفة السلال "صعبة" فيها من الحكنة والدهاء الحرفي بقدر ما فيها من الصعوبة" يقول طنوس ليردف بالقول"تحتاج الى الصبر والى تحمل جروح "نسلات" القصب" ومع ذلك يراها أبو طوني " فن الإبداع في تطويع القصب بما يلاءم حرية السلة التي تختلف أشكالها وفقا للحاجة لها فسلال الورد مغايرة عن سلال الحميضات عن المونة والزيتون وغيرها التي غابت اليوم ويقتصر عملنا فقط على سلال القصب للزينة".
سهلة وصعبة
في غرفة في منزله يجلس يتحادث مع القصب، الذي يتحول في غضون ربع ساعة الى "سلة قصب" تركن في زاوية بقربه تنتظر من يشتريها، "للحرفة أصول وفنون ودقة" يقول طنوس فهي تمر بعدة مراحل تبدأ من "شراء القصب من ضفاف الأنهر ومن طرابلس والصرفند، بعدها يُبل بالمياه ليلتين، ثم نقشره وينقطع نسلات متطابقة، لننطلق في تركيب البدوة" قاعدة السلة" وهي ركيزة السلة اكثر من عشر قصبات يتم رصها في الأرض تتحكم بها رجل طنوس ويديه التي تتحركان دون تكلف أو قيود بسرعة ماهرة، بعدها نعلقها وندور حولها بوضعية الركوع كل برمة تحتاج الى برمة مقابلة فيها تعب كبير،هي سهلة وصعبة في آن" يشير طنوس الذي ينشغل في شبك القصب وجدله بنسلات أخرى "مفسّخة" من القصب الطويل المتفرع من القاعدة والموزع بتباعد متساو، وبعد الانتهاء من الارتفاع والاتساع المطلوبين، تشبك وتجدل "المسكة" العريضة؛ وكذلك الارتفاع، فتصبح بعدها السّلة من أوزان صغيرة، أو لاتساع ستة كيلوغرامات او صندوق ليمون، جاهزة لدخول «سلك الخدمة». أما العدّة فهي اليدان وسكين "طيّب" يصلح لشطب القصب أو تمرير النسلات بين الجدائل.
الفرق 500 ليرة
تراجعا كبيرا شهدته هذه الحرفة بعد أن إقتحم البلاستيك والمطاط إذ دخلت في تنافس "عقيم" مع السلال الصينية الأرخص نسبيا، والاكثر رخرفة فنيا، ما حدّ من الإقبال على السلال "ألبلدية" وقلص من إنتاجها الذي "كان يدر 21 مليون ليرة شهريا قبل خمسة أعوام، بالكاد تسد تعب الحرفي" كما يشير طنوس الذي يرى أن "الطلب على نتاجها ضئيل جدا، فضلا عن غياب السوق المحلي الذي يدعم المستور رغم أن لا فرق بالاسعار بين سلالنا التي نبيعها بـ2500 ليرة في حين تباع الصينية بـ3000 ليرة، أضف الى أن المزارع يفضل السلل البلاستيكية على القصب رغم أن القصب أمتن".
يتأفف أبو طوني من الحال التي وصلت اليه حرفتة، بحسرة يقول "رزق الله ع عز الحرفة، كانت أموالاً طائلة اليوم جفت"... كنت أتفنن بها، أحاول أن أبتكر فيها أشياء جديدة بالقدر التي يسمح به القصب"، لأنه وفق ما يؤكد "القصب ليس سهلاً تطويعه بالطريقة التي تريدها عكس الخيزران الذي يتحول الى حشيش طري يسهل نحته بفن تجريدي يخرج قناطر وعربات وغيرها، ولكن أمام جدار التعنت والإنكماش تتصارع السلال فهي بالكاد تفي حقي وتعبي فحين تعمل طيلة النهار أو إسبوع كامل لكي تنتج 30 ألفا بلاها أفضل، لا أنكر أني أتسلى عبرها بشيئ مفيد".
هي "رزقة" بالنسبة لطنوس، وهي "زخرفة بالقصب"، يفخر بما أنجزه "طلبت مدرسة الكسليك مني ان أنجز لهم سهلة قاعدتها ورأسها بشكل وردة غير متناسقة قلت في قرارة نفسي كيف سانجزها هي صعبة، يريدون صنعها سلة، كيف ساوصلهم ولكني قررت أن احقق إنجازاً إبداعياً وصنعتها وأعجبت المدرسة رغم أنني قلت لهم أنها لم تعجبني بنسبة 20% فما كان منهم أن طلبو إنجاز أكثر من 20 قطعة كديكور للطلاب.
لا تعديل
لم يدخل أي تعديل على الحرفة كما يشير طنوس "إلا اذا طلب الزبون شيئ ما، لأن أحيانا نصنع سلال ولا نبيع فلا أريد المجازفة"، أين أصبحت الحرفة اليوم وأي مصير محتوم يترتب عليها؟ وحده صوت القصب يانس الإجابة ووحده صمود أبو طوني يُخبر أنه "باق حتى الموت" في داخله عتب كبير يحمله في مكنونات افكار حرفته التي تضيع هباء اللامبالاة من دولة لا تقدر ما تملك، "لا احد يقدر التعب، ولا من يسأل أين أصبحنا اليوم، وأين هي حرفتنا" بحسرة كبيرة يتحدث طنوس وهو غارق في أتون القصب الذي يرسمه جدايل متناسقة دون تعب ولا كلل لأنه بنظره "لا أربح جميل أحد... أعمل براحتي دون منَة من أحد" وحدها "طالما أنا قادر على العمل لن أترك هذه الحِرفة، هي جزء مني ومتنفس لي من هموم الحياة، وبتسلي بذات الوقت" تؤكد عزيمة حرفي ينازع البقاء في فضاء لا يقدّر ما ينتجه ولكن أي مصير ينتظر "سلال القصب" في الجنوب اللبناني سؤال ستفصح عنه المتغيرات المستقبلية.