الاعتكاف وبناء القلوب
شرع الله لعباده الكثير من العبادات والطاعات والقربات التي يستطيعون بأدائها وممارستها -بالصورة التي وضعها الشارع سبحانه- أن يرتقوا بأرواحهم ويسموا بأنفسهم، ومن أجـــلّ هذه الطاعات والقربات تلك السنّة التي يتفرغ فيها المرء للجد والاجتهاد في العبادة، منصرفًا بها عن علائق الدنيا وضجيجها الصاخب، ليخلو فيها بربه فيُناجيه ويناديه ويدعوه ويرجوه؛ فترق روحه ويصفو قلبه وتسمو نفسه، إنها السنّة التي داوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم، إنها سُنّة الاعتكاف؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف كل رمضان 10 أيام؛ فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه اعتكف 20 يومًا) رواه البخاري.
وإن كان الاعتكاف فرصة للمسلم يتفرغ فيها للعبادة وللارتقاء بإيمانه؛ فهو فرصة كبرى للدعاة والمربين للارتقاء بالمستوى الإيماني والتعبدي –وغيرهما- لدى من يدعونهم. وفي هذا المقال نحاول معًا طرح بعض الأفكار التي تساعد على نجاح الاعتكاف والاستفادة منه في الارتقاء بالمستوي الروحي والتعبدي للمعتكفين.
أولاً- التخطيط الجيد
فمن الضروري -ليكون الاعتكاف ناجحًا- أن يضع القائمون عليه تصورا شاملا لما يرجون أن يكون عليه الاعتكاف، مثل: وضع برنامج واضح ومحدد له، وتحديد مكان الاعتكاف بالمسجد، وتجهيز هذا المكان ليكون صالحًا لإقامة المعتكفين، ومن الضروري أيضًا وضع ميزانية متوقعة لهذا الاعتكاف، ووضع تصور لكيفية تدبير هذه الميزانية، وكذلك أمور الطعام والشراب وغير ذلك من التفاصيل التي يحتاجها الاعتكاف.
ثانيًا- حسن الإعلان
وذلك بالإعلان عن الاعتكاف في المسجد المقام فيه أو المساجد الأخرى وفي أماكن التجمعات الشبابية مثل الأندية والمدارس... إلخ، وليكن شكل الدعاية جذابًا كأن تكون ملصقًا مصممًا بشكل لافت للنظر، أو مطوية صغيرة بها برنامج الاعتكاف والتفاصيل الأخرى الخاصة به.
ثالثًا- استضافة عالم قدوة
كذلك من الأفكار التي يمكن أن تُعطي للاعتكاف فائدة تربوية كبيرة أن ندعو أحد العلماء أو الدعاة المشهود لهم بالعلم والصلاح وحسن الخلق للاعتكاف مع المعتكفين، فمعايشة المعتكفين لمثل هذا العالم أو الداعية القدوة سيكون لها أثر كبير في الارتقاء بهم في الجوانب الروحية والعبادية والسلوكية وغير ذلك؛ فمخالطة الصالحين ومعايشتهم لها عميق الأثر في نفوس من حولهم وإن لم ينطقوا بكلمة واحدة، ولذا قال أحد السلف الصالح رضوان الله عليهم: "حال رجل في ألف رجل أبلغ من مقال ألف رجل في رجل"، وقيل أيضًا: "مجالسة العارف الزاهد تدعو من 6 إلى 6: من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة، ومن الكبر إلى التواضع، ومن سوء الطوية إلى النصيحة"، فلنحرص على وجود هذا العالم أو الداعية النموذج بين صفوف المعتكفين لينهلوا من علمه وصلاحه.
رابعًا- عند وضع البرنامج
هناك عدة أمور من الضروري مراعاتها عند وضع برنامج الاعتكاف مثل:
- ظروف وأوقات المعتكفين: فمثلاً إذا كان من المعتكفين من سيذهب لعمله أو مدرسته فلا بد من الابتعاد عن هذه الأوقات في تنفيذ فقرات الاعتكاف المجمعة حتى لا يحرم هؤلاء من خيرات هذه الفقرات.
- طبيعة المعتكفين وحاجاتهم: فمثلا لو كان المعتكفون من الأطفال فإنهم يحتاجون إلى تناول موضوعات غير التي يتم تناولها مع الكبار، وإذا كانوا حديثي عهد بالتدين فإنهم يحتاجون إلى موضوعات مختلفة عن التي يحتاجها من عرف التدين منذ زمن بعيد، وهكذا فمن الضروري التنبؤ بطبيعة المعتكفين قبل وضع البرنامج أو تعديل فقراته وموضوعاته.
- الاهتمام بتأصيل كل عمل يتم في الاعتكاف، من ذكر فضله، وتوضيح السنة فيه، وذلك في الصلاة، والنوافل، والقرآن، والأذكار، والطعام، والشراب، والنوم، وكل شيء.
خامسًا- الاعتكاف أفكار وفقرات
هذه بعض الأفكار للفقرات التي يمكن أن تنفذ أثناء الاعتكاف:
1- كلمة البدء والافتتاح:
وتشمل هذه الكلمة التذكير بفضائل الاعتكاف وما يجنيه المرء من فوائد عظيمة من خلال هذا الاعتكاف، وتناول بعض الأحكام الخاصة به، كما يتم فيها التذكير بإخلاص النية لله تعالى، وكذلك التأكيد على أن يحرص المعتكفون على الاستفادة من كل لحظة تمر بهم في التزود بطاعة من الطاعات، ويوضح في هذه الكلمة النظام العام الذي سيكون عليه الاعتكاف.
2- مشاريع عباديّة:
فمن الضروري أن يكون هناك تشجيع وتحفيز للمعتكفين على الإكثار من الخيرات، كالإكثار من النوافل، ومن تلاوة القرآن، والمداومة على ذكر الله، والابتعاد عن فضول الكلام ...إلخ، ومن الممكن أن يتم ذلك من خلال وضع مشروع عبادي محدد لكل يوم، فمثلاً مشروع اليوم الأول: تلاوة عدد كبير من أجزاء القرآن مع التدبر، واليوم الثاني: ذكر الله بعدد كبير ومتنوع من الأذكار، واليوم الثالث: مراجعة عدد كبير من آيات القرآن التي كان يحفظها المعتكفون، واليوم الرابع: صلاة عدد كبير من ركعات النوافل من باب التطوع المطلق، وهكذا كل يوم مشروع يحفز المعتكفين على الانشغال بطاعة من الطاعات.
ومن الضروري أن يكون هناك تشجيع للمعتكفين على تنفيذ هذه المشاريع من خلال ذكر الفضل والثواب الذي يجنيه من يقوم بهذه الأعمال، ويمكن ذكر فضل المشروع وثوابه في كلمة الفجر بالإضافة إلى تعليق لوحة كبيرة في المسجد يكتب عليها هذا الفضل بخط جميل وجذاب.
3- صلاة التهجد:
تعد صلاة التهجد من أبرز العلامات التي يتميز بها الاعتكاف، لما لها من عظيم الأثر في النفوس ولما يلمسه المرء من شعور صادق بقربه من الله تعالى، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون الربُّ من العبد في جوف الليل الآخر) رواه الترمذي بسند حسن صحيح، ففي ظلها تصفو القلوب، وتخشع النفوس، وتتسامى العقول والخواطر، وتعرج الأرواح إلى بارئها فتنعم بجواره وتأوي إلى رحمته.
ومن الأدوار التي يمكننا القيام بها لتعميق استفادة المعتكفين بهذه المعاني الروحية من صلاة التهجد أن نوفر لهم ظروفًا تساعدهم على ذلك مثل:
- الحرص على إيجاد قارئ مجيد لحفظ القرآن، حسن الصوت، ونقصد بحسن الصوت أن يشعر من يصلي خلفه بروعة القرآن ويعيش في ظلال معانيه، كما علمنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله) رواه ابن ماجه بسند صحيح.
- يحسن أن يكون وقتها في الثلث الأخير من الليل وليس في منتصف الليل؛ وذلك لنفوز بالرحمات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم في الثلث الأخير من الليل حين قال: (إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل يُعطَى! هل من داع يُستجاب له! هل من مستغفر يُغفر له! حتى ينفجر الصبح) رواه مسلم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يستطيع المعتكفون أن يأخذوا قسطًا من النوم فيقومون للتهجد بنفس يقظة واعية لما تسمعه من آيات القرآن ولما تتلفظ به من الذكر والدعاء.
- ويمكن أيضًا أن ننظم بعض العظات القصيرة التي ترق لها القلوب، مثل: الحديث عن نعم الله علينا، وعن الجنة ونعيمها، وعن مشاهد يوم القيامة... إلخ، بين ركعات التهجد.
- كذلك يمكن عمل فقرات "معايشة"، وذلك بأن يقوم أحد المعتكفين بتحضير آية معينة، ويلقي خاطرة بسيطة حولها، ثم يترك المجال لبقية المعتكفين حتى يتفكروا في معاني هذه الآية ويتعايشوا معها.
4- مدارسة بعض الكتب:
ومن الأفكار التي يمكن أن يُستثمر بها الاعتكاف استثمارًا جيدًا أن تتم مدارسة ومناقشة أحد الكتب التي تتناول الرقائق أو الأخلاق والسلوك أو غير ذلك مما يحتاج إليه معظم المعتكفين، ومن الممكن أن تكون هذه الفقرة بعد صلاة التراويح وقبل النوم.
وتتم مدارسة ومناقشة هذا الكتاب بأن يقوم أحد القائمين على الاعتكاف أو أحد المعتكفين من ذوي العلم بعرض أحد موضوعات هذه الكتاب بصورة إجمالية بعيدًا عن التطويل الممل أو الاختصار المخل، ثم يفتح بعد ذلك النقاش حول هذا الموضوع والدروس المستفادة منه والواجبات العملية التي نستخلصها منه.
5- كلمات بعد الصلوات:
ففي الاعتكاف تسمو الأرواح وترق النفوس، فتصبح في حالة من الاستعداد والتهيؤ لقبول النصح والإرشاد والتأثر والعمل به، وهذا الاستعداد فرصة كبيرة لإكساب المعتكفين العديد من المفاهيم، وغرس الكثير من القيم والمعاني والأخلاق في نفوسهم، وليكن ذلك من خلال كلمات قصيرة وموجهة بشكل مركز حول أحد المفاهيم أو القيم أو الأخلاق أو الآداب أو غير ذلك بعد كل صلاة.
ومن الضروري لكي تؤتي هذا الكلمات ثمارها المرجوة أن يكون هناك تخطيط مسبق لموضوعاتها بما يناسب طبيعة وحاجات المعتكفين الفعلية، كما ينبغي أن تحتوي على تكاليف عملية يستطيع أن ينتقل بها المعتكفون من مجال القول والسماع إلى ميدان العمل والتطبيق.
ومن المفيد في ذلك أن نستضيف بعض العلماء أو الدعاة لتناول هذه الموضوعات.
6- حلقة تجويد القرآن:
فالاعتكاف يعد فرصة جيدة لتعلم من لا يجيد تلاوة القرآن لأحكام التلاوة، ولذا فمن الممكن أن يحتوي برنامج الاعتكاف على حلقة تجويد تهتم بتعليم أحكام تلاوة القرآن وتدريب المعتكفين على تطبيق هذه الأحكام عند التلاوة، وتبدأ بشرح الأحكام من القائم عليها، ثم يقوم بتدريب المشاركين فيها على تطبيق هذه الأحكام من خلال الاستماع إلى تلاوتهم وتصحيح أخطائهم مع التركيز على الحكم الذي شُرح لهم، ومن الممكن أن تعقد هذه الحلقة بعد الفجر أو بعد العصر.
7- مسابقات حفظ القرآن والأحاديث:
وفيها يحدد حفظ سورة معينة أو جزء محدد من القرآن أو عدد من الأحاديث النبوية، ويُعلَن عن موعد الاختبار لهذه السورة أو ذلك الجزء أو لهذه الأحاديث مع بداية الاعتكاف، ويحصل الأوائل على جوائز قيمة يتم الإعلان عنها مع الإعلان عن المسابقة، ومن الضروري أن تشمل هذه المسابقة أكثر من مستوى حتى يتمكن جميع المعتكفين على اختلاف أعمارهم أو قدراتهم من الاشتراك في منافستها.
ولكي تتحقق الاستفادة من هذه المسابقات يمكن أن يتم تناول موضوع المسابقة بالشرح والدراسة، فبالنسبة للقرآن يمكن أن تكون سورة المسابقة هي نفسها السورة التي يتم تلاوتها في حلقة التجويد، كما يمكن تناول تفسير هذه السورة بأسلوب ميسر، وأما بالنسبة لمسابقة الأحاديث فيمكن شرح المعنى الإجمالي للأحاديث وتوضيح معاني الكلمات والدروس المستفادة منها.
8- سؤال اليوم:
ومن الممكن عمل مسابقة يومية حيث يُعلَن عن سؤال في بداية اليوم، ويطلب من المعتكفين الإجابة على هذا السؤال في ورقة مكتوبة، وفي نهاية اليوم يتم السحب من بين الإجابات المقدمة ويمنح الفائز جائزة، ومن الضروري أن تدور هذه المسابقة حول معنى يُراد غرسه أو تأكيده في نفوس المعتكفين.
9- جلسات التعارف والتآلف:
ويتم في هذه الجلسات التعارف بين المعتكفين تحقيقًا لقول الله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)، فيحدث التعارف والتآلف وتسود روح المحبة والود بين المعتكفين، فيدخلون بذلك فيمن يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة، وذكر منهم (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) رواه البخاري، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يُعدّ هذا التعارف ضروريا للتواصل فيما بعد الاعتكاف والتعاون معًا في الاستمرار على طاعة الله، كما يُعدّ أيضًا نقطة البداية لدعوة حديثي التدين من المعتكفين.
ومما يساعد على إشاعة هذه الروح أن تقدم في هذه الجلسات بعض المأكولات أو المشروبات الخفيفة.
10- متابعة أحوال المسلمين والعالم:
وحتى لا ينعزل المعتكفون عن متابعة الأحداث المتلاحقة في العالم ومعرفة أحوال المسلمين، فمن الضروري أن يكون هناك نشرة أخبار يومية تربطهم بإخوانهم المسلمين في بقاع الأرض المختلفة.
سادسًا- تقييم وتقويم
ومن الضروري في نهاية الاعتكاف أن يكون هناك تقييم للجوانب المختلفة للاعتكاف من حيث الإيجابيات والسلبيات والمقترحات الجديدة حتى يُستفاد منها في تحسين الانتفاع بأوقات الاعتكاف في الأعوام التالية إن شاء الله، وهذا التقييم يتم من قبل المشاركين في الاعتكاف، ومن قبل القائمين عليه.