بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
حين أُتهمتْ أمنا عائشة – رضي الله عنها - في قصة الإفك قالت كلمات بسيطة
لكنها قوية و مُفحمة ..
" والله لقد علمتُ ، لقد سمعتم بهذا الحديثِ حتى استقرَّ في أنفسكم و صدّقتم به ، فلئن قلتُ لكم إني بريئة – و الله يعلم أني بريئة – لا تصدقونني ، و لئن اعترفتُ بأمر و الله يعلمُ أني بريئة منه لتصدقنّي ، فوالله ما أجدُ لي و لكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } "
في حادثة الإفك قصص و عِبر كثيرة ، قد نتفطّن لبعضها و قد نغفل عن كثيرٍ من الحـِـكمِ فيها ..
و هي حادثةٌ هزتْ المدينة كلها و أثرّت على رسول الله و على زوجه عائشة و على كل مسلم حتى وقتنا هذا .
قصة حادثة الإفك قصةٌ طويلة وردتْ في صحيح البخاري و مسلم ، لكن سأورد هُنا بعضاً منها و أعلّق عليها ..
لأن قِصّة الإفك نراها تتكرر الآن في عصرنا الحالي
أناسٌ تــُـتهم زوراً و ظُلماً و بهتاناً
و أشخاص آخرين يتبنّون هذا الاتهام و يتصدرونه ..
و آخرين ينقلون الكلام دون تثبّت أو تروّي و التأكـّـد من صِحة ما قيل .
و إنا لله و إنا إليه راجعون
أمـا والله إن الظُلْـمَ لـؤمٌ و مازال المسيءُ هو الظلومُ
إلى الديّان يومِ الدِينِ نمضي و عند الله تجتمعُ الخصومُ
بعدما علمتْ السيدة عائشة – رضي الله عنها - بخبرٍ تناقله أهل المدينة ، و الذي تولّى كـِـبره عبد الله بن أُبيّ بن سلول
فاغترَّ بعض المسلمين بكلامه فنشروه و تكلموا به و صدقّوا ما قيل عن أطهرِ عـِـرض و عن أطهر زوجة ، و يكفي مقامها شرفاً أن تكون زوجاَ للحبيب عليه الصلاة و السلام .
تقول عائشة – رضي الله عنها - :
فبكيتُ تلك الليلة حتى أصبحتُ لا يرقأ لي دمعٌ و لا أكتحلُ بنومٍ ، ثم أصبحتُ أبكي .
و قالت بعد أن علمتْ بمشورة أسامة و علي – رضي الله عنهما :
و بكيتُ يومي ذلك لا يرقأُ لي دمعٌ و لا أكتحلُ بنومٍ ، و أبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي .
و قالت :
دخل علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلّم ثم جلس فتشهّد رسول الله صلى الله عليه و سلّم حين جلس ثم قال :
أمّا بعدُ يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنكِ كذا و كذا ، فإن كنتِ بريئة فسيبرئكِ الله ، و إن كنتِ ألممتِ بذنبٍ فاستغفري الله و توبي إليه ، فإن العبدَ إذا اعترفَ بذنبهِ و تاب تاب الله عليه .
قالت :
فلمـّـا قضى رسول الله صلى الله عليه و سلّم مقالته ، قــلـُصَ دمعي حتى ما أحسُّ منه قطرة ، فقلتُ لأبي : أجبْ عني رسول الله ، فقال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه و سلّم .. فقلتُ لأمي أجيبي عني رسول الله ، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه و سلّم
قالت : فقلتُ و أنا جارية حديثة السِن لا أقرأُ كثيراً من القرآن " والله لقد علمتُ ، لقد سمعتم بهذا الحديثِ حتى استقرَّ في أنفسكم و صدّقتم به ، فلئن قلتُ لكم إني بريئة – و الله يعلم أني بريئة – لا تصدقونني ، و لئن اعترفتُ بأمر و الله يعلمُ أني بريئة منه لتصدقنّي ، فوالله ما أجدُ لي و لكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } "
قالت : ثم تحوّلتُ فاضطجعتُ على فراشي ، قالت : و أنا والله أعلمُ حينئذٍ أني بريئة و أن الله تعالى مبرئي ببراءتي ، لكن والله ما كنتُ أظنُّ أن يُنزل في شأني وحيٌ يُتلى ، و لشأني كان أحقرُ في نفسي من أن يتكلّمَ اللهُ فيَّ بأمرٍ يُتلى ، و لكن كنتُ أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها .
قالت : فوالله ما رام رسول الله مجلسه و لا خرجَ من أهل البيت أحدٌ حتى أنزل الله على نبيّه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عن الوحي حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجُمان من العـَـرق - و هو في يومٍ شاتٍ – من ثـِقــَـلِ القولِ الذي أُنزلَ عليه .
قالت : فسرّيَ عن رسول الله صلى الله عليه و سلّم و هو يضحك ، فكان أولَ كلمةٍ تكلم بها أن قال : " أبشري يا عائشة أمـّـا الله عز و جل فقد برأكِ "
قالت : فقالت لي أمي : قومي إليه ، فقلتُ : والله لا أقومُ إليه و لا أحمدُ إلا الله عز و جل هو الذي أنزل براءتي .
و أنزل الله عزّ و جل { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ........ } الآيات العشر من سورة النور
=================
و في القصة وقفات و فيها عـِـبرةٌ و عظة
و في القصّة سلوىً لكل من أُصيبَ أو أصيبتْ في أعراضهم
و سلوىً لكن من قُذفَ بتهمةٍ هو منها بريء و الله يعلمُ أنه بريء .
في القصة تقول أمنــّـا - رضي الله عنها - :
و بكيتُ يومي ذلك لا يرقأُ لي دمعٌ و لا أكتحلُ بنومٍ ، و أبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي .
و هكذا هي حالُ النساء و حال الضُعفاء ، حين يجدون أنَّ الناس كلهم ضدهم و أنه لا حـِـيلةَ لهم
يدافعون بها عن أنفسهم أو يـُـسكتون ألسنة السوء عنهم
فلا يجدون سوى الدموع تنفــّـس عنهم بعض ما يجدون ، و تطفئُ شيئاً من نارٍ مشتعلة بصدورهم .
*****************
و في القصة ذكرت عائشة – رضي الله عنها - :
دخل علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلّم ثم جلس فتشهّد رسول الله صلى الله عليه و سلّم حين جلس ثم قال :
أمّا بعدُ يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنكِ كذا و كذا ، فإن كنتِ بريئة فسيبرئكِ الله ، و إن كنتِ ألممتِ بذنبٍ فاستغفري الله و توبي إليه ، فإن العبدَ إذا اعترفَ بذنبهِ و تاب تاب الله عليه .
بأبي هو و أمي عليه الصلاة و السلام لم يعنفــّـها و لم يوبخــّـها و لا أسمعها أقسى الكلمات
كان طوال فترة مرضها ساكتٌ لا يتكلم ::
و هكذا ينبغي لنا أن نراعي ظروف الذين سمعنا عنهم أو رأينا منهم ريباً ، فمن الحِكمة أن نتأنــّـى في الحديث حتى تتهيأ الظروف .
و من الحِكمة أن نـتـثـبـّـثَ من كل ما نسمعه .
بأبي هو و أمي عليه الصلاة و السلام ..
قدّم لزوجته حلولاً بعد أن أبلغها ما سمعه عنها ، ما هاجمها أو جعلها في موضع اتهّام
ترك لها فرصةً لتفكّر فيما تفعله بعد ذنبها إن هي أذنبتْ ..
ما قـذفها بكلامِ قبيح ثم تركها و ذهب ، و منع عنها كل فرصة دفاع
و لا قذفها بكلامِ قبيح ثم أمرها بأن تدافع عن نفسها
بل في أسلوبه الحِكمة و الرحمة
أسلوب الشفيق الرحيم ، الذي آلمه أن يسمع عن زوجته ما سمع
أولاً طمأنها بأن الله سيبرئها إن كانت بريئة
و كأنه يلمّح لها بأن تثق بالله و تعلمَ بأنه يسمع و يرى و سينصر الذين ظــُـلموا
{ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ }
ثم طمأنها أكثر و ذكّرها بعظيم عفو الله و أن المسلم يمكن أن يخطئ و يذنب و هذا أمر عادي
لكن الغير عادي أن لا يستغفر و أن لا يتوب و أن لا يعترف أصلاً بأنه أذنب ، بل و يلقي بجريرة ذنبه على غيره و يتهمُّ غيره بأنه السبب فيما وقع فيه .
بأبي أنت و أمي يا رسول الله .
***************************
قالت – رضي الله عنها – :
فقلتُ لأبي : أجبْ عني رسول الله ، فقال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه و سلّم .. فقلتُ لأمي أجيبي عني رسول الله ، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه و سلّم
موقف رائع و حكيم من أبي بكر الصديّق و من زوجته
لم يدافعا عن ابنتهما و لم يعترضا على زوجها صلى الله عليه و سلّم
كانا يحميان أنفسهما بأن يتكلما بكلمةٍ قد تزيد الأمرَ سوءً أو تعقيداً
و هكذا ينبغي لمن وقف موقف القاضي ، فإن لم يستطع أن يحدد موقفه أو يقول كلمة تصلّح الموقف
فما أجمل السكوت .
قالت – رضي الله عنها - :
" والله لقد علمتُ ، لقد سمعتم بهذا الحديثِ حتى استقرَّ في أنفسكم و صدّقتم به ، فلئن قلتُ لكم إني بريئة – و الله يعلم أني بريئة – لا تصدقونني ، و لئن اعترفتُ بأمر و الله يعلمُ أني بريئة منه لتصدقنّي ، فوالله ما أجدُ لي و لكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف { أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } "
من قالت هذا الكلام هي نفسها التي قالت : و بكيتُ يومي ذلك لا يرقأُ لي دمعٌ و لا أكتحلُ بنومٍ ، و أبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي .
لأنها الآن أصبحتْ في موضع مواجهة ، و الدموع لا تكون حلاً الآن ..
الآن هي في موقف دفاع عن نفسها ..
فماذا تصنع و هي لا تجد دليل براءتها ؟؟
و كيف تصنع و هي ترى نظرات التُهمة في عيون من حولها ؟؟
و ماذا تقول و هي تعلم و الله يعلم أنها بريئة ؟؟
و بــِـمَ ينطق لسانها و هي تعلم أنه لن يصدّقها أحد ، لو تكلمتْ حتى تقوم الساعة ..
لذا عرفتْ أنه لن ينصرها و لن يظهر الحق و يأخذ لها بحقها مـِـن مــَـن ظلمها إلا عالمَ الغيبِ و الشهادة
رَبُّ السمواتِ و الأرض الذي حرّم الظلمَ على نفسه .
فأوكلتَ أمرها إليه و هي تعلمُ أنه نــِـعمَ الوكيل .
فلمــّـا كان هذا حالُها ..
و لمــّـا كانت بريئة ..
و لمــّـا صدقتْ في توكلها على ربها ..
جاء النصر فوراً ، و ظهرتْ الحقيقة و تجلّتْ الغمامة السوداء
لتنزل آياتٌ تـُــتلى إلى يوم القيامة
آياتٌ فيها عِبرة و عِظة لكل متعظ ، و فيها سلوى لكل مظلوم .
و هكذا هم المظلومون ..
يتجرّعون آلاماً كبيرة ..
و تغصُّ بهم دموعهم ..
تمرُّ عليهم أياماً عصيبة ، و أوقات مريرة ..
حين يظلمهم الناس ..
و حين لا يجدون حيلةً في أخْذ حقوقهم ..
و حين تتقطّع بهم السُبل ..
يعلمون أن في السماء رَبٌّ يبغض الظلم و يحبُّ العدل .
لذلك تخرج دعواتهم صادقة و دموعهم تسابق تلك الدعوات ، و بقلبٍ صادقٍ متيقــّـن يعلمون بأنهم منصورون
فيأتي الفــَـرج من عند ربٍ لا يسهو و لا ينام
عليمٌ بصير ، مجيب لدعوة المظلومين ..
حينها و حينها فقط يعلم المظلومون { إِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }
و حينها { َسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ }