قال أبو عبدالرحمن: لا أريد أن أثقل عليكم بما حرّرته من أقوال الأصوليين عن هذه المسألة؛ وذلك ميسّر معروف في مظانّه، يعرفه أهل الاختصاص؛ وإنما أريد أن أصل بكم إلى النتيجة بهذه الوقفات: الوقفة الأولى أنه تلخّص من أقوال الأصوليين عن الأسماء الشرعية ثلاثة أمور: أولها افتراض أنّ الشريعة كلّها من أولها إلى آخرها: معدول بها عن المعهود اللغوي العربي؛ فهذا مذهب لم يقل به أحد؛ فهو احتمال مجمع عليه إجماع ضرورة؛ والإجماع هاهنا بمعانيهم الأصولية مأخوذ من عدم العلم بالمخالف؛ وهو عدم علم في حكم العلم بالعدم رجحانًا؛ وللرجحان حكم اليقين في الاعتقاد والعمل؛ وإنّما كان له حكم العلم؛ لأنّ أهل الفتوى محصورون، ويبعد في مجرى العادة وجود قول خطير؛ بسبب شذوذه لم ينقل عن عالم معتد به.. وثانيها أنّ الشريعة كلها من أولها إلى آخرها: لم يعدل بها عن المعهود اللغوي العربي؛ فهذا مذهب كثير من العلماء؛ ولكنه ليس هو مذهب الجمهور.. وثالثها أنّ في الشريعة بعض الأسماء الاصطلاحية أخذها الشرع من لغة العرب، واصطلح عليها باسم من لغة العرب؛ وهذا هو مذهب الجمهور.. وبقيت أوشاب يجب أن تنقّى هذه المسألة منها؛ فمن تلك الأوشاب: احتمال (أبي الحسين المعتزلي) أن يكون الاسم الشرعي ومعناه: لا يعرفه أهل اللغة؛ فهذا يقتضي مذهباً ثالثاً؛ وهو أن يكون في الشرع خطاب بغير لغة العرب؛ ولا أعلم قائلاً بهذا، ونصوص الشرع تنفيه؛ لأنّ الوحي بلغة عربية مبيّنة بما في ذلك ما عرّبه العرب؛ فصار من تراثهم.. ومن تلك الأوشاب احتمال (أبي الحسين المعتزلي) أن يكون المعنى الشرعي مما عرفه العرب، ولكنهم لم يعرفوا اسمه؛ وهذا يقتضي ما سلف ذكره مما هو ممتنع؛ وهو أن يكون في الشرع خطاب بغير لغة العرب؛ فإن أراد (أبوالحسين) أنّ العرب لم تعرف المعنى بذلك الاسم: فتلك مسألة ثانية فيها احتمالان: الاحتمال الأول أن يكون الاسم غير معروف عند العرب بإطلاق، وهذا هو الممتنع.. والاحتمال الثاني أن يكون العرب يعرفون الاسم، ولكن بغير المعنى الذي اصطلح عليه الشرع؛ فهذا صحيح وارد، وسأقيم البرهان إن شاء الله على صحته.. والوقفة الثانية أنّ الشيخ (عبدالجبار بن أحمد المعتزلي) ذكر شرطين هما من تحصيل الحاصل، وذكرهما تدنّ بعلم الأصول؛ فالشرط الأول أن يكون معنى الاسم الشرعي ثابتًا بالشرع.. وقال: (هذا اشتراط موجود؛ لأنّ الاصطلاح لم يسمّ شرعياً إلا لثبوت المعنى شرعاً في اجتهاد المتهد.. والشرط الثاني أن يكون الاسم موضوعاً للمعنى بالشرع).
قال أبو عبدالرحمن: التعبير الدّقيق أن يقال: وأن يكون المعنى لا اللفظ بمعانيه الأخرى غير موجود بذلك الاسم في لغة العرب؛ فيعرف أنه من اصطلاح الشرع.. والتعبير بكلمة (وضع): تعني أنّ الشرع ارتجل اسماً لا صلة له بمعهود لغة العرب؛ وهذا ممتنع لما سلف بيانه من لزوم الخطاب بغير لغة العرب.. والوقفة الثالثة التعبير عن الاصطلاح الشرعي بالنقل: تعبير فاسد المعنى واقعاً؛ لأنّ النقل وجد أحياناً بالحكم الشرعي لا بحقيقة الاصطلاح الشرعي؛ وأما في الأغلب فالشرع يأخذ ذولا ينقل؛ لأنّ المأخوذ منه يبقى على وضعه لغةً: كالصلاة بمعنى الدعاء؛ فلم يتغير المعنى بهذا اللفظ بعد الاصطلاح بنفس اللفظ على هيئات مخصوصة؛ لهذا فالأسلم التعبير بالاصطلاح والاشتقاق والأخذ.. والوقفة الرابعة أنّ في الشرع مصطلحات على معان شرعية لم تعرف حقيقتها قبل نزول الشرع، وأنّ الاسم المصطلح به معروف عند العرب بمادته وصيغته، وبمعاني أخرى غير المعنى الذي اصطلح عليه الشرع؛ وأنّ المعنى الذي اصطلح عليه الشرع متعلّق بالمعنى الذي تعرفه العرب تعلقاً يفهمونه، ويتصرفون بمثله في التّوسيع وإنماء لغتهم؛ وهذا الاصطلاح الشرعي لا يعني أنّ في لغة الشرع ما ليس من لغة العرب؛ وإنما يؤكّد تأكيداً لا لبس فيه على أنّ هذا الاصطلاح نفسه برهان آخر على أنّ جميع لغة الشرع لغة عربية.. والبرهان على ذلك مسلّمة إيمانية مشروطة في هويّة كل مسلم (يؤمن بصدق الله وكماله وعصمة خبره)؛ وهو أنّ معرفتنا نحن البشر بلغة العرب معرفة نقلية تارة، واستنباطية تارة.. وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وصدق فيما قال: (لا يحيط بلغة العرب إلا قلب نبي)، وهكذا كل قوم لا يحيط بلغتهم إلا نبيهم؛ فإذا قال لنا ربنا: إنّ الشرع بلغة عربية مبينة (وهو جلّ جلاله معلّم اللغات والمنقول والمعقول): فمعنى ذلك الجزم بأنّ كل ما في لغة الشرع بلغة عربية، وهذه الحقيقة الخبرية الجاهزة تتمّم معرفتنا التوسلية غير المعصومة بلغة العرب؛ وإذن تكون لغة الشرع هي الأصل والمعيار لمعرفة لغة العرب؛ لأننا نحن البشر نحاول اكتشاف الحقيقة، وخبر خالق الحقيقة أصدق من خبر من يحاول اكتشافها؛ وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.
++++++++++++++++++
راعكم الله وحفظكم احبتى
ألإحـــــــد28صفــــــــــر1441هـــــ.
منصـــــــــــــوورر