[frame="4 80"]
لا يُسمى الناقد ناقدًا إلا إذا كان بصيرًا بالكشف عن مواطن الجمال والقبح فيما بين يديه، والهدف الأسمى له هو التقويم والإصلاح، وليس اتخاذ النقد دثارًا يتستر به للتفكه في أعراض الآخرين..
لا يصعب على أحد أن يمتطي سرج تخطئة الآخرين، ويبري سهام النقد على من سواه من المتكلمين أو العاملين، وهؤلاء في الجملة كُثُر، وإنما نسمي ما يتفوهون به انتقادًا من باب التجوز في اللفظ، وإلا فالنقد فن راقٍ، بوجوده يكتمل النسيج الإنساني فضلاً عن الإسلامي الذي جاء مبنيًا على قاعدة «بعضنا يكمل بعضاً» وهي بلا شك مأخوذة من تأسيس خير البرية صلى الله عليه وآله حين قال « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» وقد يقصر فهم كثير عن المعنى الأعمق للحديث، إذ يتبادر إلى ذهنه إغاثة المحتاج، ونصرة المظلوم، ونحو هذه المعاني! وإنما هي جزء من معناه، وما نحن بصدده أيضاً جزء من معناه، بل أهم مما ذكرتُ، فتقويم الأفكار وانتقاد الأفعال لتكون على الجادة هي من أولويات «يشد بعضه بعضاً».
وفي الأثر الآخر « المؤمن مرآة المؤمن» وهو أقعد بالاستدلال هنا وأكثر احتواءً لكل أركان التشبيه، وما أعظم وقعها على النفس حين نتأملها جيدًا، فإن كل واحد منا يحتاج للمرآة ليرى فيها نفسه، ويصلح من خياله فيها معايب شخصه، وهو قبل ذلك يحتاج إلى الاعتناء بهذه المرآة فيحفظها من الانكسار، ويجلي ما علاها من غبار، وهو عين الأمر فيما يحصل في النقد بين اثنين من المتأملين لكلام بعضهما.
فالنقد فن إصلاح وبناء، وليس استهدافاً لشخص دون تأملٍ في عواقب انتقاده بغير درايةٍ بما يفعله ويقوله، ولا يُسمى الناقد ناقدًا إلا إذا كان بصيرًا بالكشف عن مواطن الجمال والقبح فيما بين يديه، والهدف الأسمى له هو التقويم والإصلاح، وليس اتخاذ النقد دثارًا يتستر به للتفكه في أعراض الآخرين، واستنقاص مَن علا شأنًا عنه، لغرض في نفسه، إما لتشويه يراد لذاته، أو للعاعة ينالها على ذلك التشويه! وربما نَقَدَ فقط ليقال ناقد، فيقتحم فيافي الوصول لمبتغاه بغير زاد من معرفةٍ، ولا رؤية، ولا هدف!
يا ناقداً لكَلامٍ لَيْس يَفهمُهُ
مَن ليس يَفهم قل لي كيف يَنتقدُ
والأسوأ من هذا كله أن يتناسى في مقام تطفله على النقد الأصل العظيم والأساس القويم في بناء هيكله الإنساني، فيتجاوز عبارات الصدق في خصمه إلى الكذب وتمويه الحقائق، فيظهر من ينتقده في صورة غير صورته، ويصنع لخصمه جمهورًا من المبغضين، وثمرة هذا إثم الغيبة، والولوغ في عرض مسلم!
وقد كان فيما كان بين أئمتنا وعلمائنا من السلف المناظرات والانتقادات، ولم يعرف عنهم استصحاب التباغض والإساءة في الخصومة إلا من زمن قريب، قال يونس بن عبدالأعلى: ناظرت الشافعي يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال لي: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟!
وبعض «النقاد» إن صحت التسمية، لا يقيم وزنًا لأخوّة تجمعه بخصمه، ولا لوطنٍ يؤطره في دائرته، ولا لإنسان ينزله منزلته، فتوسعت دائرة المهاترات، واستفحل الفجور في الخصومات، والإساءة إلى أهل المكرمات، وقلّت الأهداف النبيلة من الانتقادات، فأصبح من يريد النيل من خصمه يرفع شعار «النقد» ويستبيح عرض أخيه المسلم في مواقع التواصل، وفي المجالس، والقنوات! بل وأعظم من هذا أن توظف منابر الوعظ والإرشاد وقنوات النصح في استهداف الأشخاص، وذكر ما يصورها المتكلم للناس مثالب، وما هي بمثالب، لكنه يجعلها كذلك إذ قد عزم على تشويه صورة خصمه، فيحيل الجميل سيئاً، ويظهر الحَسَنَ في قالب قبيح، مستخدماً أقذع العبارات، وأسوأ التأويلات!
نظروا بعين عداوةٍ لو أنها
[/frame]