قوافل الحج في العصر العثماني
قوافل الحج العصر العثماني
لقد كانت السمة الدينية من أهم السمات التي اتسمت بها تشريعات الدولة العثمانية؛ فقد كان للهيئة الإِسلامية وضع معترف به، وكان يطلق على رئيسها لقب المفتي أو مفتي إستانبول، ثم تَغير هذا اللقب إلى "شيخ الإِسلام" الذي كان يشرف على الهيئات القضائية والهيئات ذات الطابع والنشاط الديني. وكان السلاطين أنفسهم حريصين على تدعيم سلطته، فقد كان شيخ الإِسلام يصدر فتوى تجيز الحرب، دفاعا، أو هجوما، وعقد الصلح، وغير ذلك من الأحداث الجسام.
وقد كان من مظاهر اهتمام الدولة العثمانية بالدين والعالم الإِسلامي اهتمامها بمنصب نقيب الأشراف.
الحجاز في العهد العثماني:
كما كان الاهتمام الكبير بالحجاز من السمات التي حافظ عليها كل السلاطين العثمانيين؛ فقد كان الحجاز وما يحويه من أماكن إسلامية مقدسة تابعا للدولة العثمانية، مما أضفى عليه مركزا دينيا مرموقا في جميع أرجاء العالم الإِسلامي. وقد أعفت الدولة العثمانية منطقة الحجاز من أداء الضرائب، بل أقر لها سليم الأول ثلث ما كان يجبى من مصر. كما أوقف خراج اليونان عند فتحه على الحرمين الشريفين. ولم يكن الاهتمام وقفا على الأماكن، بل تعدّاها إلى المواطن، فقد أُعفِي سكان الحجاز من التجنيد، وأبقت الدولة على الحكم الذاتي المتمثل في نظام الشرافة؛ وكل ما كانت تفعله أن ترسل فرمانا تحدد فيه إمكانات واختصاصات وواجبات الشريف الجديد عند تعيينه، وتوصيته ببعض الوصايا التي كانت تنصب في أغلبها على حماية الحجاج في أموالهم وأرواحهم، وأن يقسم بالعدل الصرة الهمايونية بين الأهالي، وكذلك المؤن القادمة من مصر، وأن يسعى لبسط الأمن على الطرق. وكان أمير مكة المكرمة يتمتع -في التشريفات- بأسمى مقام في صف الصدر الأعظم في الآسِتانة والخديوي في مصر وترتب له العطايا من قبل السلطان.
ولكن الشيء الذي أولته الدولة العثمانية جل اهتمامها، هو قوافل الحج والإشراف المباشر والفعلي على الحج، واعتبرت هذا العمل واجبا يقع على عاتقها، باعتباره الركن الخامس من أركان الإِسلام، وأن عليها تيسير الحج أمام الراغبين فيه، فأنشأت قوافل الحج، واهتمت بالطرق؛ فأقامت الحصون، وحفرت الآبار على طول طرق الحج، وشجعت على إقامة الخانات، وأقامت المخافر، وكانت تشرف على قوافل الحج الرئيسية التي كانت تخرج من أنحاء الدولة كافة في مواعيد محددة كل عام، وتضع لها قوة تحرسها، يقودها أحد كبار العسكريين، الذي كان يسمى "سَرْدَارُ الحج". وكان على رأس كل قافلة أمير للحج، وكثيرا ما كان أمير الحج يتولى قيادة الجيش المرافق للقافلة، وخاصة قافلة الحج الشامي.
أهم قوافل الحج:
وكانت أهم قوافل الحج في العهد العثماني:
أ- قافلة الحج الشامي:
وتضم حجاج بلاد الشام والجزيرة وأذربيجان والقوقاز والقرم والأناضول والبلقان، وحجاج إستانبول نفسها، وكان عددها يتراوح ما بين ثلاثين وخمسين ألفا. وقد كان السلطان العثماني يشرف بنفسه على ترتيب وإعداد هذه القافلة وخروجها من مدينة إستانبول. وكانت القافلة تقطع الطريق التجاري حتى تصل إلى دمشق، ومنها إلى أراضي الموآبيين القدماء، ومن بلاد معن عبر صحراء مزريب إلى مدائن صالح حتى تصل القافلة إلى المدينة المنورة.
وكان السلطان العثماني يصدر أوامره إلى الولاة لتسهيل مهمة مرور القافلة، وأن يتولوا مهام حراستها حتى تصل إلى حدود الولاية المجاورة، فيتولى الوالي الجديد استقبالها وتأمين مسيرتها عبر ولايته، حتى تصل سالمة إلى نهاية ولايته وهكذا.
وقد كانت القافلة وعلى رأسها أمير الحج تعبر هذه الولايات وسط حفاوة واهتمام بالغ، ويتسلم أمير الحج بصك شرعي أموال الأوقاف والهدايا المرسلة إلى أهالي الحرمين الشريفين، وإلى الحرمين الشريفين ذاتهما، من بسط وتحَف ومصابيح وشمعدانات ومواد غذائية وما شابه ذلك.
ب- قافلة الحج المصري:
وتضم حجيج مصر وشمال أفريقيا، وكانت من أهم القوافل خلال العصر العثماني، حيث كانت تضم المحمل المصري وكسوة الكعبة المشرفة الجديدة. وكانت تتحرك من القاهرة خلال الأسبوع الأخير من شوال من كل عام، وسط احتفالات عظيمة تتم تحت إشراف الوالي نفسه. وتقطع المسافة في 37 يوما، سالكة طريق السويس وسيناء والعقبة ثم تلتقي في بعض الطرق مع قوافل الحج الشامي، وفي بعض السنوات كانت تستقل السفن من السويس إلى جدة، أو من الموانيء المصرية الأخرى المواجهة لجدة.
ج- قافلة الحج العراقي:
وتضم حجاج العراق وفارس، وتسلك الطريق الذي يعبر جزيرة العرب نفسها. وكان كثير من حجاج فارس والخليج العربي واليمن يفضلون طريق البحر والسفن البحرية.
د- قافلة الحج اليمني:
وتضم حجيج اليمن والهند وماليزيا وأندونيسيا، وينضم إليهم حجاج الحبشة والصومال والأفارقة الذين يصلون إلى مصوع وسواكن وموانيء اليمن.
كانت القوافل تضم عناصر مختلفة؛ ففيها الأمراء، والأثرياء، والتجار ومعهم تجاراتهم، والفقراء والمعدمون. وكان كلٌّ حسب قدرته يرافق القافلة، ففيها الهودج وفيها الجمال والخيول، وفيها الرجالة من البدو والفقراء.
وقد كان الولاة يقومون باستئجار الجمال والخيول لحمل مهمات القافلة، ويتعاقدون على ذلك قبل موسم الحج بوقت كافٍ، ويتفقون على ذلك مع مشايخ الأعراب والبدو الذين يعيشون في المناطق التي تسلكها القوافل.
أهم طرق قوافل الحج:
وأهم الطرق التي كانت تسلكها القوافل بين الحرمين الشريفين هي:
1- الطريق السلطاني:
أي الطريق الرئيسي، وكان على حجاج القافلة التي تسلك هذا الطريق أن يتجمعوا عند وادي فاطمة بالقرب من مكة المكرمة للاتجاه إلى المدينة المنورة. ويتزود الحجاج فيها بما يلزمهم، ثم يتجهون إلى بئر عسفان، وتسلك طريقها حتى تصل إلى رابغ التي تفترق عندها الطرق، وإن كان أكثرها استعمالا هو الطريق السلطاني.
كان الحمّالة هم الذين يحددون أماكن التوقف، وكانوا يفضلون تلك التي تضم آبارا للتزود بالمياه. وتعودت القوافل أن تدخل المدينة في اليوم السادس من خروجها من رابغ. وهذا الطريق السلطاني كان هو الطريق المعتاد بالنسبة لقوافل الحج وقوافل المحامل. وبالرغم من قلة مياهه فإن مطالعه ومنازله الوعرة كانت شبه معدومة، ولكن كانت تبعد عنه بعض الشيء سلاسل جبلية مكنت بعض عربان البدو من مهاجمة هذه القوافل، مما دفع قوافل الحجاج المسلمين ومواكب التجار إلى أن يسلكوا الطرق المسماة بالطرق الفرعية لعمرانها وعدم خطورتها.
2- الطريق الفرعي:
هو الطريق المؤدي من رابغ إلى المدينة المنورة عن طريق "بريدة". والذين يودون السفر عن طريق "الطريق الفرعي" يتجمعون عند "المرحلة"، التي تسمى آنذاك "بئر رضوان"، وهي تبعد مسيرة ثنتي عشرة ساعة من رابغ، ويتزودون بالمياه والمؤن، ثم يسلكون الطريق مارين بقرية "أبي ضياعة" و"ريان" و"أم العيال" و"مضيق" و"صمد"، ثم تمر القوافل من المنطقة المنخفضة التي تسمى الغدير التي تتجمع فيها مياه الأمطار فتحولها إلى ما يشبه البحيرة.
الطريق الفرعي الثاني المؤدي إلى المدينة المنورة هو طريق غابر، وبالرغم من أن المسافة عبر هذا الطريق كانت تقطع في خمسة أيام من مكة إلى المدينة، فإنه طريق جبلي، كثير المطالع والمنازل، مما جعله صعب المنال بالنسبة للجمال التي غالبا ما تكون محملة بأشياء ثقيلة، وتجعل قطع الطريق مرهقا، كما أن كثرة الجبال تجعله مرتعا لقطاع الطرق والأشقياء، مما يدفع الجمالة إلى الابتعاد عنه وعدم سلوكه، إلا أن قِصَرَه بالنسبة للطريق السلطاني والطريق الفرعي تجعل منه معبرا مطروقا من قبل المشاة، أو من يمتطون صهوة الخيول، أو من قبل فرسان الخيالة والهجانة التابعين لقوة الدولة العثمانية، والمنوط بها حفظ الأمن وحماية مكة المكرمة والمدينة المنورة. وتورد بعض كتب التاريخ أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قد سلك هذا الطريق عند هجرته الميمونة إلى المدينة المنورة.
وهناك أيضا الطريق الشرقي الذي يربط المدينة المنورة ومكة المكرمة، وهو طريق كبير ومتسع إلى حد ما، وكثيرا ما تسلكه القوافل المترددة بين المدينتين المقدستين، وهو الطريق المفضل عند قوافل المحمل، والقوافل التي كانت تحمل الصرة، وخاصة في المواسم التي كانت تشتد فيها الحرارة، وتزداد فيها حملات الخارجين على القانون، وتسلطهم على الطرق الأخرى.
وعرف بهذا الاسم لوقوعه على الطرف الشرقي من بلاد الحجاز، وتصل القوافل التي تقطع هذا الطريق إلى مرحلة بئر الليمون بعد مسيرة أربع عشرة ساعة، ثم بئر برود الذي تفضل القوافل الاستراحة عنده، والتزود من مياهه العذبة. وبعد المرور من بضع آبار ومراحل أخرى تصل القوافل إلى "بركة زبيدة"، وهي البركة التي أمرت السيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد بتشييدها لتجمع فيها مياه السيول في هذه المنطقة.
ومن الطرق الفرعية التي تسلكها القوافل بين المدينة المنورة ومكة المكرمة أيضا طريق ينبع البحر. فينبع البحر تعد مرفأ المدينة المنورة. والقوافل المتجهة إلى البلدة الطيبة تصل أولا إلى "بئر سعيد" ثم قرية "صفراء"، وعند هذه القرية يلتقي طريق ينبع البحر مع الطريق السلطاني؛ ومن ينبع حتى طيبة الطيبة خمس مراحل سيرا بقوافل الجمال. والمعروف أن المرحلة هي مسيرة يوم واحد بالجمال، أي مسيرة سبعة وعشرين ميلا. وتمر القوافل التي تسلك هذا الطريق بقرية بدر المباركة، ويقرأون الفاتحة على أرواح شهداء بدر الكبرى، وهذا الطريق سهل ومستوٍ مما يشجع القوافل على عبوره.
أشهر الطرق إلى مكة المكرمة:
أما أشهر الطرق المؤدية إلى مكة المكرمة، وكانت تسلكها قوافل الحج القادمة من بلدان العالم الإسلامي فكانت سبعة طرق، وبيانها كالتالي:
1- طريق الشام:
هو الطريق الذي كانت تسلكه قوافل الحج القادمة من الشام وكذلك قافلة محمل الشام. وكانت قافلة الشام تتحرك في أغلب المواسم في الخامس عشر من شوال تحت رئاسة أمير الحج، وكان يتولاها في العادة والي سوريا. وقبل التحرك يجري احتفال كبير ينظمه قائد الجيش الخامس، وبعد القيام بالتشريفات المعهودة في مثل هذه الأمور تخرج القافلة من الشام من "قبة الحاج"، التي كانت تعد نقطة البدء للقافلة، ومنها إلى الكسوة حيث ينضم إليها الحجاج الذين تجمعوا في "مزريب"، ثم تتجه مجتمعة إلى المراحل التالية.
ومن المناطق التي تمر بها القافلة عبر هذا الطريق منتزه مزريب في حوران، وبجوار عين مزريب أمر السلطان سليم الأول ببناء قلعة -مازالت أطلالها باقية حتى الآن- لحماية قافلة الحج، ثم الزرقاء فالبلقاء، ثم القطرنة حيث القلعة التي شيدها سليمان القانوني بجوار البركة التي أمر بإعادة تطهيرها بعد أن كانت قد تساوت مع الأرض. ومن القطرنة تتابع القافلة سيرها حتى الكرك، ثم عنيزة، فقلعة معان. وهذه المنطقة تسجل كتب التاريخ أنها كانت مقر إقامة بني أمية، وأمر السلطان سليمان القانوني بإقامة قلعة وحفر بئر فيها. ومن معان إلى ظهر العقبة نحو »ذات الحج«، وفي ذات الحج أو حجر هذه أمر القانوني بإقامة قلعة لحماية القوافل من غارات البدو والأعراب، وتشتهر بتمورها وثمارها الجيدة. ومنها إلى »قاع البسيط« فتبوك ثم أخيضر التي تقع في منتصف المسافة بين مكة والشام.
وقد كلف السلطان سليمان القانوني عند جلوسه على العرش سنة (926هـ / 1520م) واليه على الشام مصطفى باشا ببناء قلعة أخيضر، وبعدها تصل القوافل إلى بركة المعظم، ثم جبل الطاق الذي عقرت فيه ناقة النبي صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ثم مبرك الناقة، ثم قرى صالح، ثم ديار ثمود، وهي تلك المنازل التي نحتت في الجبال، وفيها مسجد النبي صالح عليه السلام، ومنها إلى العلا التي تبعد عن المدينة المنورة بست مراحل، وهي من ملحقات المدينة المنورة؛ وأمر السلطان القانوني بتجديد قلعتها وحصنها لحمايتها من غارات الأعراب. ومنها إلى شعب النعام ومنزل فحلتين، ثم وادي القرى الذي تكثر فيه المياه والغابات، وأبيار علي رضى الله عنه، وفيها يحرم الحجيج جميعًا. ومنها تمر القوافل بقبور الشهداء، ثم الجديدة وقاع البرو وبلاد طارق وعقبة السويق؛ ومنها إلى عسفان حيث الآبار النبوية المأثورة، وبعدها تدخل القوافل إلى مكة المكرمة في أوائل ذي الحجة من كل عام، بعد أن تكون قد قطعت المسافة من المدينة في مائة وست ساعات.