أم عظيمة، وثلاث كفيفات
قصة بقلم الكاتبة: هند عامر
الصورة السابقة هي صورة القاعة التي التقيت فيها بأم الفتيات الثلاث
في معهد شرعي بمدينة الرياض
وقد بدأت الحكاية في أخر عام 1428هـ حيث التحقت بمعهد شرعي لعدة أشهر
وفي أحد المرات استأذنت من الأستاذة بالخروج من المحاضرة لمراجعة الورد المحدد,
ذهبت وجلست في استراحة داخلية مفروشة بالسجاد
وكان هناك فتاة تملك وجها بشوشا .. وترتدي نظارة جميلة ..
لم تكن تفعل شيئا سوى الجلوس !!
نظرت إلي بنفس الابتسامة وقالت:
فقط أجابت بـ (لا أدري) وعادت إلى صمتها
تعجبت من ردها المختصر .. وابتسامتها !!
وبدأت أبحث عن ساعة الحائط, كانت الساعة تقارب التاسعة والنصف صباحا .
انشغلت بالمراجعة ثم رن الجرس معلنا انتهاء المحاضرة, خرج بعض الفتيات وبدأ الضجيج يحيط بالمكان.
قامت تلك الفتاة بهدوء وسارت قليلا حتى وصلت إلى أطراف السجاد,
ارتدت حذائها واتجهت لباب القاعة المجاورة للاستراحة.
كنت أشيعها بنظري وأنا في غاية التعجب!!
رأيت تلك الفتاة تستند على إحدى زميلاتي وهي تركب الحافلة, ظننتها متعبة,
لكن كانت المفاجئة حينما سألت زميلتي .. قالت لي زميلتي:
أنا أسندها لأن (فلانة كفيفة)
– دعونا نسمي الفتاة باسم بيان ليسهل سرد الحكاية-
ظننت أن زميلتي تلك تمازحني .. لكنها الحقيقة
وهي تحفظ مكان القاعة التي تدرس فيها لهذا ذهبت بهدوء وكأنها مبصرة
سألت زميلة اخرى عن حفظ (بيان) للقرآن ؟
أخبرتني أن بيان في المستوى الثالث وهي خاتمة للقرآن بل وحفظها متقن, وأتت هنا للمراجعة وتصحيح التلاوة فقط !!
في بداية عام 1429 هـ كان هناك حفل تكريم الخاتمات .. وكلفت حينها من قبل مشرفة النشاط
بتصميم العرض المرئي الخاص بالحفل
هنا شريحة تكريم الخاتمات من ذلك العرض .. لتشاركوني تفاصيل الحكاية
بعد الحفل توجهت للمقاعد الأخيرة كان هناك وجه تعلوه البشاشة .. مشابه تماما لوجه بيان ..
اقتربت منها وسلمت عليها وباركت لها وسط تعجب منها !!
حينما خرجت من القاعة تفاجأت بوجود بيان أمامي ضمن مسيرة الخاتمات
تساءلت: ومن تكون تلك في آخر القاعة؟
أن بيان هي إحدى ثلاث شقيقات كفيفات وكلهن خاتمات للقرآن !!
---------------------------------------------------------
---------------------------------------------------------
شعرت بصدمة.. قلت في نفسي:
كيف استطعن ختم القرآن في ظل هذه الظروف؟
سألت زميلتي: من الذي تعاهدهن بالقرآن حتى حفظنه؟
كلما رزقت بمولودة وأخبروها الأطباء أنها كفيفة, عاهدت نفسها على أن تجعل ابنتها من حفظة القرآن
تكرر ذلك ثلاثة مرات .. وكأنها في كل مرة تشكر الله على هذا الابتلاء!!
دلوني على تلك الأم العظيمة.
وجدت امرأة .. ذات روح مرحة .. ووجه مبتسم ..
ولا يصدق الناظر لها أن لديها ثلاث بنات في العشرين من العمر.
سلمت عليها وهنأتها، ثم قلت:
سأطلب منك طلبا ..فلا ترديني خائبة؟
قالت: أحاول .. إن استطعت ؟
قلت: اسمحي لي أن أقبل رأسك,
والله إن امرأة مثلك تستحق أن نقبل رأسها .. ليس أنا فحسب بل كل الحاضرات لهذا الحفل.
قالت: لا والله .. هو بتوفيق الله
وأصرت أن لا أقبل رأسها .. حتى رضخت أنا لرغبتها
بعد مدة من نفس العام 1429هـ اضطررت لعدم متابعة دراستي في المعهد,
والتحقت بالعمل في إحدى المؤسسات
فشعرت بالجفاف الروحي الذي يخلفه العمل الإداري البحت,
العمل الإداري مضني للروح مهما كان المكان الذي تعمل فيه..
إلا إذا تعاهدت نفسك ببرنامج قرآني تحيي به روحك
قررت أن ألتحق بدار تحفيظ قريبة,
وفي الدار كانت معلمتي كفيفة أيضا!!
أذهلتني قدرتها المدهشة على الحفظ
إذ كنا نقرأ عليها و تصحح لنا وكأن المصحف امامها لشدة إتقانها
وفي أحد الأيام وبالمصادفة قرأت اسمها على الباب فتفاجأت ..لقد كانت تحمل نفس اسم عائلة بيان
عدت لأتأمل ملامح معلمتي فإذا هي شقيقة بيان !!
---------------------------------------------------------
---------------------------------------------------------
وفي عام 1432 هـ في العشر الأواخر من رمضان
ذهبت إلى جامع الدخيل في الرياض لتأدية صلاة القيام,
فتصادف وجودي في أحد الممرات مع فتاة تشبه بيان وكانت أمها تمسك بيدها .
قلت: أنا هند عامر زميلة بيان, هل أنت والدتها؟
قالت: نعم – وتهلل وجهها –
صافحتها وسألتها عن أحوالها
فإذا هي الشقيقة الثالثة .. أتت لتصلي قيام الليل مع القارئ ياسر الدوسري الذي عرف بطول صلاته!!
وأي همة عالية رأيتها في هؤلاء الأخوات الكفيفات ؟!
لم يمنعهن حرمان البصر من أن يصلن لهدفهن رغم العوائق..
لم يمنعهن من أن يحرصن على مرضاة الله بأكثر ما يفعل المبصرون!!
من أن يمتلكن ثقة عالية بالنفس مستمدة من ثقتهن بربهن ..
كنَّ مثابرات ومحتسبات .. ورااااائعااات
- بارك الله لهنَّ حفظهن وهمتهن -
أسأل الله لهن جميعا الثبات والسداد
أسأل الله لهن جميعا الثبات والسداد
أسأل الله لهن جميعا الثبات والسداد
أن يديم الله عليها الاحتساب ويكتب لها أجر صبرها الجميل
كانت هذه الحكاية، أما الآية
{ هَلْ جَزَا?ءُ ?لْإِحْسَـ?نِ إِلَّا ?لْإِحْسَـ?نُ } (الرحمن : 60 )
(ما لمن أحسن في الدنيا العمل إلا الإحسان إليه في الدار الآخرة)
ولو لم يكن لأم بيان من جزاء إلا صلاح بنياتها وحفظهن للقرآن لكفاها
هذا ما قدمته والدة بيان ومازالت تقدم
فماذا قدمت أنت ؟ ؟ وهل أخلصت فيه؟ هل أتقنته؟
هل تستحق به الإحسان في الآخرة؟
كل الأمور يمكن تأجيلها ..
إلا جلسة مع نفسك تكرر عليها هذا السؤال
ما وافق الحق من قولي فخذوه .. وما جانبه بلا تردد اجتنبوه