موضوع بعنوان
المؤمن يحب الله ورسوله عما سواهما
يقول رب العزة في كتابه الكريم:
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء أن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون *
قل ان كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم
من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى ياتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}.. سورة التوبة الآيات 23 : 24.
تلك هي عقيدة الإيمان وذاك لبها وجوهرها
انها لا تحتمل لها في القلب شريكا فإما تجرد لها وإما انسلاخ منها.
وليس المقصود انقطاع المؤمن عن ذي رحمة، بل إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب ويخلص لها الحب وأن تكون هي
المسيطرة والحاكمة وهي المحركة والدافعة فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة على أن يكون
مستعدا لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة
ومفترق الطريق هنا هو إما أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لغرض من أغراض هذه الأرض
فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والأخوة والعشيرة.
ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق في غير سرف ولا مخيلة بل يكون
المتاع فيها آنئذ مستحب باعتباره لونا من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده
وهم يذكرون أنه تعالى المنعم الوهاب
وهكذا يجب أن تنقطع أواصر الدم والنسب إذا انقطعت آصرة القلب والعقيدة، وتبطل ولاية القرابة ن الأسرة إذا بطلت
ولاية القرابة من الله، فلله الولاية الأولى والأخيرة وفيها ترتبط البشرية جميعا، فإذا إنعدمت فلا ولاية بعد ذلك
والحبل مقطوع والعروة منقوضة
والقرآن لا يكتفي بتقرير المبدأ بل إنه يأخذ في استعراض ألوان الوشائج والمطامع واللذائذ ليضعها كلها في كفة ويضع العقيدة
في كفة الآباء والأبناء والإخوان والعشيرة وهي وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج، والأموال والتجارة وهي تمثل مطمع الفطرة
ورغبتها، والمساكن المريحة وهي تمثل متاع الحياة ولذتها
وفي الكفة الأخرى حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله، الجهاد بكل مقتضياته وبكل مشقاته وما يتبعه من تعب ونصب
وتضييق وحرمان وألم وتضحية وجراح واستشهاد لأنه جهاد في سبيل الله مجردا من الصيت والذكر
والظهور والمباهاة والفخر والخيلاء
وهذا التجرد ليس مطالبا به الفرد وحده بل الجماعة والأمة كلها والدولة فلا يجوز أن يكون هناك اعتبارا لعلاقة أو مصلحة
يرتفع على مقتضيات العقيدة في الله ومقتضيات الجهاد في سبيل الله.
ولقد عرف الرعيل الأول تلك المعاني وآمنوا بها إيمانا راسخا فلم يجعلوا لمحبة الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله شيئا
يوازيها بل إنهم أفردوها في الميدان وحدها فاستحقوا أن يكونوا ربانيين.
ومن هذه المواقف التي آثروا فيها محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله موقف أم حبيبة أم المؤمنين بنت أبي سفيان حينما جاءها
أبوها أبو سفيان ليقدم اعتذاره وأسفه للرسول صلى الله عليه وسلم عما فعلت قريش من مناصرتها حلفائها من قبيلة بكر على حلفاء
رسول الله من خزاعة ودخل بيتها وجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فطوت الفراش عنه وسألها عن سبب ذلك قائلا:
يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ فقالت له: والله لقد أصابك بعدي شر
ومن المواقف التي تتجلى فيها الإيمان وحب الله ورسوله ما حدث من عمر بن الخطاب لخاله العاص بن هشام بن المغيرة حينما
لقيه في الصف يوم بدر فأهوى عمر عليه بسيفه حتى قتله
ومن هذه المواقف الإيمانية ما حدث يوم بدر أيضا من أبي عبيدة ابن الجراح لأبيه فقد قتله وفيه نزل قوله تعالى:
{لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب
في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب
الله ألا إن حزب الله هم المفلحون}
ومن مواقف الإيمان التي أوثر فيها حب الله ورسوله والجهاد في سبيله ما رواه ابن مسعود من أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى
عنه قد دعا ابنه عبد الرحمن يوم بدر للبراز فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
(متعنا بنفسك أما علمت أنك مني بمنزلة سمعي وبصري)
وأنزل الله قوله: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم لما يحييكم} وبعد إسلام عبد الرحمن بن أبي بكر يوم الحديبية
قال لأبيه أبي بكر (والله يا أبتي لقد كان بوسع سيفي أن ينالك يوم بدر ولكني أغضيت الطرف عنك لما بيني وبينك من رحم)
فقال له أبو بكر: (والله لو أن سيفي قد طالك يوم بدر لقتلك قربانا لله رب العالمين).
تلك مواقف الإيمان لأصحاب محمد الذين وصفهم ربهم بقوله :
{ أشداء على الكفار رحماء بينهم }
فأين إيماننا من إيمانهم وأين نحن منهم.