من كوكو شانيل إلى هيبار جيفنشي وأودري هيبورن إلى قاعات كريستيز
في عالم الموضة، كما في أمور أخرى، تتواطأ الظروف احيانا لتحول إبداعا يبدأ بفكرة عادية إلى أيقونة لا تنسى إلى الأبد تتعدى كونها مجرد قطعة اساسية إلى قطعة اسطورية، وليس أدل على هذا من الفستان الناعم الذي أبدعته الآنسة كوكو شانيل في العشرينات من القرن الماضي، ويحتفل حاليا بمرور 80 سنة على ولادته. عند تصميمها له، انطلقت كوكو شانيل من فكرة «لئيمة» إن صح القول. فكرة ظاهرها التمرد على التقاليد وتقديم الجديد، وباطنها السخرية من الطبقات المخملية التي كانت حتى ذلك الوقت تميل إلى الفساتين الطويلة والمعقدة، مدفوعة برغبة دفينة في تكسير الطبقية الاجتماعية التي كانت سائدة في كل مناحي الحياة، بما فيها الموضة. فكوكو لم تتحدر من اسرة ميسورة، بل العكس تماما، حيث ربيت في دير على يد راهبات بعد وفاة والدتها، وعانت من التمييز الطبقي بينها وبين فتيات المجتمع الأرستقراطي اللواتي كن يدفعن للدير. عندما شبت انتقمت لنفسها من خلال نجاحها في أن تكون نفسها، وتحيطها بهالة جعلت الحديث عن هذه الاصول غير وارد أو مناسب. أما القول بأن فكرة ولادة هذا الفستان «لئيمة» نوعا ما، فيعود إلى انها استوحته من الزي الأسود القصير الذي كانت تلبسه الخادمات آنذاك، لكنها طورته وباعته بذكاء للمرأة العصرية، والأمريكية بالذات التي بدأت في تلك الفترة تطمح إلى الأناقة الباريسية، مسلحة بقدرتها الشرائية الهائلة. فحتى ذلك الوقت كان الفستان طويلا وكان اللون الأسود يكاد يقتصر على مناسبات الحداد، لكن في عددها لشهر نوفمبر 1926 نشرت مجلة «فوغ» النسخة الفرنسية رسما للفستان الثوري تحت عنوان «زي المرأة العصرية الأنيقة». الفستان الاصلي كان خاليا من التطريزات، وبدون أزرار لافتة أو ما شابه من تفاصيل، لكنه كان بسيطا من قماش الكريب بياقة عالية وأكمام ضيقة ويصل إلى الركبة. فكما نعرف عن الآنسة كوكو نفورها من التصميم القصير، انطلاقا من قناعتها بأن كشف المرأة عن ساقيها وركبتها ليس مثيرا أو جميلا. لا داعي للقول بأن المرأة العصرية عانقت التصميم الجديد بالاحضان، لكن خبيرات الشراء الأمريكيات هن من نقلنه إلى العالمية، بعد أن لمس وترا حساسا لديهن، فما كان منهن إلا ان حملنه إلى بنات جلدتهن اللواتي كن متعطشات للتحرر من قيود التفاصيل الكثيرة، ووجدن فيه زيا يلبسنه عوض ان يلبسهن، وهكذا ولدت اسطورة الفستان الأسود الناعم. كما هو الأمر بالنسبة لكل جديد، فإن بساطته لم ترق للجميع، خصوصا للمصممين الذين كانوا يؤمنون بالفخامة وما تتضمنه من تعقيدات تميزها عن باقي الأزياء الموجهة لـ«البروليتاريا»، نذكر من هؤلاء على سبيل المثال، المصمم بول بواريه، الذي قضى عليه اسلوب كوكو البسيط وأدى إلى إفلاسه بعد فترة قصيرة. كما نشرت صحيفة فرنسية اخرى تصف الفستان: «وداعا للصدر، وداعا للخصر وداعا للردف». لكن ما لم يفهمه المسؤول عن هذا النعي الصحافي، أو بول بواريه وأمثالهما، ان هذه الصفات هي التي باتت مطلوبة في ظل التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي عرفها العالم بعد الحرب العالمية الأولى. كوكو كانت تريد تصميمها الثوري للنهار، على أن تنسقه صاحبته حسب شخصيتها بإضافة الاكسسوارات حتى تكسر شكله الموحد. فهي مثلا كانت تلبسه مع عقد بصفوف متعددة من اللؤلؤ، وبالتالي كانت وراء نشر موضة مجوهرات الاكسسوارات، أي المجوهرات غير الأصلية أو غالية الثمن، الأمر الذي حقق بعض العدالة التي كانت تتوخاها عندما صممت هذا الفستان، إلا ان بساطته شكلت ارضية مثالية لخلق مظهر مختلف ومتجدد، وسرعان ما تعدت استعمالاته مناسبات النهار، إلى مناسبات المساء والسهرة والكوكتيل. لكن الحقيقة ان الفستان لم يصل إلى أوج قمته، إلا على مقص المصمم هيبار جيفنشي وعلى جسم ملهمته النجمة أودري هيبورن. فهذه الأخيرة لبسته في فيلمي «سابرينا» ثم في «إفطار في تيفاني» لتعزز اسطورته وتزيد من كاريزميته وتحوله إلى تحفة تاريخية على غرار اللوحات الفنية وقطع المجوهرات النادرة، بدليل ان كريستيز تحضر لبيعه في المزاد غدا، الخامس من شهر ديسمبر القادم بلندن، وتأمل بأن يباع بمبلغ خيالي، كونه يتمتع بكل المواصفات التي ستجعل «من عملية بيعه حدثا مثيرا» حسب تصريح المسؤولين عن المزاد. سيطرح الفستان للبيع بمبلغ يتراوح ما بين 50 ألفاً و70 ألف جنيه استرليني لكن الحصيلة قد تتعدى هذه المبالغ بكثير، إذا كان المعيار المزادات المماثلة التي بيعت فيها أزياء الأميرة الراحلة ديانا أو فستان مارلين مونرو الذي ارتدته عندما غنت في حفل يوم ميلاد الرئيس جون كينيدي. يقول مصمم دار جيفنشي الحالي، ريكاردو تيشي ان «الفستان الذي صممه هيبار جيفنشي لهيبورن، ثوري من حيث بساطته وعصريته رغم مرور 45 سنة على تصميمه، والفضل يعود أيضا إلى أن أودري هيبورن تجسد الأناقة الفرنسية والحداثة الأمريكية في ذلك الوقت». وهذا ما يفسر اسطورته التي لم تخفت مع الزمن، فما ان يذكر الفستان الأسود الناعم، حتى تتبادر صورتها في فيلم «إفطار في تيفاني» بقبعتها الضخمة التي يتدلى منها إيشارب أبيض ونظاراتها السوداء التي لا تقل ضخامة وسيجارتها الطويلة وعقدها اللؤلؤي المكون من عدة صفوف.
أكثر ما يؤكد تحدي الفستان للزمن أنه لم يقتصر على جيل من النساء ولا على جيل من المصممين، ففي كل مناسبة، يحاول مصمم آخر أن يضفي عليه من شخصيته وأسلوبه، لكن من دون ان يلمس الهيكل الأساسي كما تصورته الآنسة كوكو. والحقيقة ان بعضهم يتفوق وبعضهم يهيم من غير هدى، خصوصا عندما تزيد التفاصيل والزخرفات عن حدها. في الثمانينات كان المصمم عز الدين علايا أكثر من أتقن ترجمة هذا الفستان، لكنها ترجمة بمفهوم الثمانينات فحسب. فقد جعله يلتصق على الجسم ليبرز رشاقته وجمالياته عندما يكون ممشوقا وبعضلات منحوتة، في حقبة عرفت توجها محموما نحو التمارين الرياضية بأشكالها، وعرفت نوادي الرياضة على العموم انتعاشا لا نظير له، وبالتالي كان ترجمة غير ديموقراطية ولا تخاطب كل النساء، هذا عدا أن السعر طبعا الذي لا تقدر عليه العديدات منا، بينما كانت شانيل تريده لكل النساء، على اساس أن كل امرأة يجب ان تضم خزانة ملابسها ولو واحدا على الأقل. ورغم ان معظم بيوت الأزياء تقدم في كل موسم ترجمة خاصة بها لهذا التصميم، بدءا من غوتشي وفيرساتشي إلى بالنسياجا وجيل ساندر مرورا بفيندي وكلوي وسيلين وهلم جرا، إلا ان الحبل السري الذي يربطه بدار «شانيل» ما زال وثيقا. ففي كل موسم يقدمه خليفتها، كارل لاغرفيلد<، بشكل مواكب للعصر من حيث إدخال أقمشة جديدة وتقنيات متطورة، وبطريقة تروق لمتطلبات المرأة الشابة، بدءا من إدخال أحجار سواروفسكي إلى استعمال الدانتيل. صحيح انه لم يلمس الهيكل الاساسي، من حيث فكرته، لكنه في الكثير من الأحيان تفوق على مؤسسة الدار، وربما هذا ما أعطى لفستان دار «شانيل» بالذات نكهته الخاصة وكلاسيكيته التي لا تعترف بالزمن، وإن كان يؤخذ عليه في تشكيلته الأخيرة الموجهة لربيع وصيف 2007، ميله إلى الطول القصير جدا، وهو الأمر الذي قد لا تباركه كوكو، هي التي صرحت مرارا بأن كشف المرأة عن ساقيها لا يمت إلى الأناقة بصلة، وهو الرأي الذي تميل العديدات منا إليه.
* من الأزياء التي طرحت في المزاد فساتين الأميرة الراحلة ديانا في عام 1997 بقاعة كريستيز بنيويورك، ووصل المبلغ إلى 3.2 مليون دولار، وفي عام 1999 تم بيع فستان مارلين مونرو المرصع الذي غنت فيه أغنيتها الشهيرة لجون كينيدي: «عيد ميلاد سعيد سيدي الرئيس» بمبلغ 1.27 مليون دولار.
* تجدر الإشارة إلى ان المصمم هيبار جيفنشي قدم الفستان الأسود الذي صممه لأودري هيبورن، وهو نفس الفستان المطروح للبيع غدا، إلى صديقه الكاتب الفرنسي دومينيك لابيير، مؤسس الجمعية الخيرية «سيتي أوف جوي أيد» City Of Joy Aid التي تستهدف إنشاء مصحات ومدارس ومراكز تأهيل خاصة بالمحتاجين في الهند. وفي تصريح له بهذا الشأن قال: «أنا سعيد ان أساعد هذه المؤسسة الخيرية وأنا متأكد ان أودري هيبورن لو كانت بيننا لباركت هذه الخطوة وأعربت عن سعادتها من أجل الأطفال الذين كانت تحبهم للغاية».
[/QUOTE]