السلام عليكم ورحمة الله
************************************
منذ أن انتشر الإسلام أقبل الأدباء على مدح نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بمدائح كثيرة،
حفظ لنا التاريخ شيئاً منها، ومن أقدمها ما جاء عن أم معبد رضي الله عنها من وصفها للنبي صلى الله عليه وسلم
بعدما حل بخيمتها في طريق هجرته إلى المدينة، وكان من وصفها:
"إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء،
أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحسنه وأجمله من قريب،
حلو المنطق، لانزر ولا هزر" [المستدرك على الصحيحين، (9/3)، وغريب الحديث لابن قتيبة (1/ 463)، وانظر الإصابة في ترجمة أم معبد].
كما كان لشعراء الرسول صلى الله عليه وسلم كحسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير وكعب بن مالك والعباس بن مرداس وغيرهم
قصائد عدة في مدحه ورثائه، منها قصيدة حسان بن ثابت رضي الله عنه التي مطلعها:
بطيبة رَسْم للرسول ومَعهد *** منير وقد تعفو الرسوم وتهْمَد
ولا تنمحي الآيات من دار حُرْمة *** بها منبر الهادي الذي كان يصعد
ومنها قصيدة كعب بن زهير رضي الله عنه التي قالها عند إسلامه،
واعتذر بها لرسول الله صلى الله عليه وسلم-، وألقاها بين يديه في مسجده وسط صحابته، ومطلعها:
أنبئت أن رسول الله أوعدني *** والعفو عند رسول الله مأمول
بل إن هناك من شعراء الكفار من مدحه وأثنى على أخلاقه الكريمة، كعمه أبي طالب في قصيدته المشهورة، ومنها قوله:
وأبيض يُستسقى الغمامُ بوجهه *** ثمالُ اليتامى عصمة للأرامل
وكالأعشى الكبير ميمون بن قيس الذي مدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة رائعة، وجاء بها ليسلم عنده
ويلقيها بين يديه، ولكن قريشاً أغرته بالدنيا فعاد ومات كافراً.
ومن قصيدته قوله:
نبيٌ يرى ما لا ترون وذكره *** أغار لعمري في البلاد وأنجدا
له صَدَقاتٌ ما تُغِبُّ ونائل *** وليس عطاءُ اليوم مانعه غدا
وهكذا اتصل مدح النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ورثائه بعد مماته،
وذكر أخلاقه وأوصافه عند أصحابه والتابعين..دون غلو أو تجاوز لحدود المشروع.
وبعد قيام دولة بني أمية والحوادث التي جرت لآل بيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وتشيع من تشيع لهم
بدأت المبالغة في مدحهم والثناء عليهم، حتى اشتهر شعراء بذلك، وأكثروا منه،
\كالكميت الأسدي ودعبل الخزاعي والشريف الرضي ومهيار الديلمي،
وهؤلاء جاءت مبالغتهم من غلوهم في رجالات آل البيت، وتفضيلهم على من يرونهم أعداء لهم من الأمويين وغيرهم؛
فموقفهم في الحقيقة سياسي أكثر من كونه معتمداً على اقتناعاتهم الشرعية؛
فلهذا جاء كلامهم على آل علي بن أبي طالب رضي الله عنه دون غيرهم، حتى النبي صلى الله عليه وسلم قل مديحهم له
في مقابل مديحهم لآل بيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ومن أشعارهم هاشميات الكميت وأشهرها: "البائيتان واللامية والميمية"، يقول في إحدى البائيتين:
إلى النفر البيض الذين بحبِّهم *** إلى الله فيما نالني أتقرِّب
بني هاشم رهط النبي فإنني بهم *** ولهم أرضى مراراً وأغضب
ومع ذلك كان مدح من مضى لآل البيت أكثره صادقاً، لأنهم يمدحونهم والدنيا ليست بأيديهم خلاف شعراء الدولة العبيدية
المنتسبة زوراً إلى فاطمة الزهراء رضي الله عنها
التي كان الشعراء يتزلفون إلى حكامهم بمدحهم ومدح آل البيت
ومنه مدح النبي صلى الله عليه وسلم-،
وهذا المدح غير داخل في حقيقته في المدائح النبوية، لأنه مدح من أجل الدنيا، لا لحبهم أو التقرب إلى الله بمدحهم،
ولهذا وصل الأمر ببعضهم إلى حد الشرك كابن هانئ الأندلسي، حيث يقول في مدح المعز لدين الله الفاطمي:
ما شئتَ لا ما شاءت الأقدار *** فاحكم فأنت الواحد القهار
ويقول:
ولك الجواري المنشآت مواخراً *** تجري بأمرك والرياح رخاءُ
ولهذا كان مدح هؤلاء منصباً على حكام الدولة العبيدية ومن يزعم هؤلاء الحكام محبتهم من رجالات آل البيت،
ويقل فيه مدح النبي صلى الله عليه وسلم.
وتستمر المدائح النبوية دائرة حول أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم الخُلُقية والخَلْقية المعروفة،
ولا نجد ذلك الغلو الذي يخرج بالمدائح النبوية إلى رفع النبي صلى الله عليه وسلم فوق مقامه البشري،
وإضفاء بعض الصفات الإلهية عليه إلا في القرن السابع..
الذي يعرف في التاريخ الإسلامي بانتشار التصوف فيه إلى حد كبير،
مما أثر تأثيراً كبيراً على الشعراء الذين تسابقوا في مضمار المدائح النبوية،
بنَفَسٍ يخالف المدائح السابقة، ويوافق الفكر التصوفي.
وكانت البداية الفعلية لهذه المدائح بهذا النَفَس الصوفي المتميز على يد محمد بن سعيد البوصيري،
المتوفى في الإسكندرية سنة695 هـ،
فقد نظم عدة قصائد في المدائح النبوية، وأشهرها
الميمية أشهر وأذيع عند عامة المتصوفين ومقلديهم،
وقد نسجت حولها المنامات والأساطير، ابتداء بناظمها الذي جاء عنه أنه بسبب استشفائه بهذه القصيدة
مسح النبي صلى الله عليه وسلم في المنام عليه فبرئ من فالج كان أبطل نصفه وألقى عليه بردة،
فسميت القصيدة لذلك بالبردة، ونسجت الأساطير لكل بيت من أبياتها، وشاع التبرك والاستشفاء بها،
فصارت تسمى أيضاً: البُرْأَة، والبُروة، وقصيدة الشدائد،
وغالى المتصوفة وأتباعهم فيها:
"حتى عملوها تميمة تعلق على الرؤوس، وزعموا فيها مزاعم كثيرة من أنواع البركة،
وهم على ذلك إلى يومنا هذا" [دراسة محمد النجار لبردة البوصيري، ص (62) عن كتاب المقفى للمقريري].
وقد زاد الغلو في المدائح النبوية منذ عهد البوصيري إلى بدايات العهد الحديث،
ومن أمثلة هذا الغلو والمغالين محمد بن أبي بكر البغدادي
الذي صنف ديواناً كاملاً باسم:
"القصائد الوتـرية في مدح خير البرية" نظم فيه 29 قصيدة منها/
أغثني أجرني ضاع عمري إلى متى *** بأثقال أوزاري أراني أُرزأُ
وقوله:
ذهاباً ذهاباً يا عصاةُ لأحمد *** ولوذوا به مما جرى وتعوَّذوا
ذنوبكم تُمحى وتعطون جنة *** بها دُرَرٌ حصباؤها وزمرد
ومن أشد الغالين: عبد الرحيم البرعي اليماني، فله ديوان شعر أكثره مدائح نبوية،
ومن مدحه الغالي قوله
سيد السادات من مضر *** غوث أهل البدو الحضر
وقوله:
يا سيدي يا رسول الله يا أملي *** يا موئلي يا ملاذي، يوم تلقاني
هب لي بجاهك ما قدمت من زلل *** جوداً ورجح بفضل منك ميزاني
واسمع دعائي واكشف ما يساورني *** من الخطوب ونفِّس كُلَّ أحزاني
وكذلك أكثر من عارض البردة قديماً وحديثاً وما أكثرهم تأثر بما فيها من غلو.
وقد تأثر كذلك المتأخرون بهذا الغلو، فمستكثر ومستقل.
فهذا البارودي يقول:
أبكاني الدهر حتى إذ لجأت به *** حنا علي وأبدى ثغر مبتسم
وهذه شاعرة معاصرة ألفت كتاباً كاملاً من شعر التفعيلة باسم: (بردة الرسول) من أجل أن تشفى من مرض عانت منه طويلاً،
ملأته بالغلو.
ومن مثل قولها:
يا سيدي اسمع دعائي كن مًعين *** وأجب رجائي يا محمدنا الأمين
أما هذا الغلو عند شعراء الصوفية ومقلديهم فأشهر من أن أشير إليه هنا.
ومما سبق نستخلص
أن المدائح النبوية الغالية منذ البوصيري ومن قلده لا علاقة لها بالمدائح النبوية قبلها؛
لأنه شتان بين التصور الواقعي البشري كما صوره شعراء المديح النبوي الأوائل من أمثال كعب بن زهير
وكعب بن مالك وحسان بن ثابت، ومعاصريهم،
وبين التصور المتأخر للرسول عليه الصلاة والسلام عند شعراء المديح النبوي المتأخرين
الذين أحالوا شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سلسلة طويلة من الخوارق والمعجزات والقدرات فوق الطبيعة،
حتى بات النبي صلى الله عليه وسلم ذا طبيعة إلهية لا بشرية [دراسة النجار، ص (26)].
وزياده على ذلك شخصيا من بعض العقول والالباب
من يتقرب يسبح الله ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم
بمعازف وغناء
سبحان الله و رسول الاسلام بريئان من ذلك
ومن يصل الى الشرك بفعله وقوله واعتقاده فهو في خطر عظيم ..
(اذ قال لقمان لإبنه وهو يعظه يابني لاتشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) سورة لقمان
ومع هذا فقد بقي كثير من الشعراء قديماً وحديثاً بمعزل عن هذا الغلو، ولكن الحديث الآن ليس عنهم، والله أعلم.
************************************
سليمان بن عبد العزيز الفريجي
************************************