بسم الله الرحمن الرحيم
تحرّي الصواب
الْحَمْدُ للهِ الملكِ الحَقّ، المُثيبِ على الصدق، أمرنا بالأخذِ بالأسباب، والتحقُّقِ مِنْ صدقِ الخطاب، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أرسلهُ اللهُ هادياً إلى الحقيقة، ومُرشداً إلى أقومِ طريقة، فأنارَ اللهُ بدعوتهِ الأفهام، وبيَّنَ بها الحقائقَ مِنَ الأوهام، عليهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أفضلُ الصلاةِ وأزكى السلام.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
أوصيكُم ونفسي بتقواه، والعملِ بما فيهِ رضاه، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) (1) ، واعلمُوا -رحمكُم الله- أنَّ الحقيقةَ كلمةٌ عظيمة، تطمئنُّ لها أنفسُ العباد، وتُعْمَرُ بِعُشّاقِها البلاد، لذا أمرَ اللهُ عبادَهُ بالبحثِ عنها، والحرصِ والمثابرةِ عليها، حَذَراً مِنْ إصابةِ الأبرياءِ بالبلاء، وصوناً للمجتمعِ مِنْ دواعي الفرقةِ والشحناء، قال تعالى (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)) (2) ، وفي المقابلِ حَذَّرَ المُتجنِّينَ على الحقيقة، المُولَعينَ بالإشاعات، والباحثينَ عَنِ العَثَرات، فقال: (( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً، مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً)) (3) ، كيف لا والإسلامُ دينٌ بُنِيَتْ أحكامُهُ على أساسٍ متينٍ مِنَ الحقيقةِ الواضحةِ التي لا ريبَ فيها، يقولُ تعالى في وصفِ كتابهِ العزيز: ((لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ))(4)، ويقول: ((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً))(5)، إنَّ الحقيقةَ هي الميزانُ الدقيقُ للأمورِ والقضايا، يُعرَفُ بهِ الحقُّ مِنَ الباطل، والخطأُ مِنَ الصواب، والنافعُ مِنَ الضار، وهي مطلبُ كُلِّ عاقل، وهدفُ كلِّ عامل، لإِدراكِها تجتهدُ الأذهان، وللوصولِ إليها يسعى كلُّ إنسان، مَنْ ظفرَ بها سعدَ في الدنيا والآخرة، ومَنْ فاتتهُ كانت تجارتُهُ خاسرة، والحقيقةُ وحدها التي تُثمِر، مَنْ سلكَ طريقَها جنى ثمرةَ سعيه، ومَنْ هجرَ سبيلَها أخفقَ في الوصولِ إلى هدفه؛ فكم مِنْ عاملٍ لم يأخذْ بحقائقِ الأمور، ولم يحسبِ الحسابَ لما يقيهِ مِنَ الشُرور، صنعَ لنفسهِ الأملَ على أساسٍ مِنَ الأوهام، ظناً منهُ أنَّ حقائقَ النجاحِ والإخفاقِ لا تسري عليه، وأنَّ الرفضَ والفشلَ لا يتطرَّقانِ إليه، وقد نعى اللهُ على هذا الصنفِ مِنَ الناسِ الذينَ يطلبونَ النجاةَ بالوهم، فَهُمْ كالراكضِ وراءَ السراب، النادمِ لحظةَ تجلّي الحقيقة، لحظةَ العدل والحساب، فقال: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) (6)، وهذا حالٌ يهربُ مِنْهُ مَنْ سلِمَ عقلُهُ وصفا ذِهنُه، وصلحَتْ سيرتُهُ ونقَتْ سريرتُهُ، لأنَّهُ يحترمُ حقائقَ الأشياء، ويأخذُ بمعطياتِهَا عندَ إرادةِ العملِ والبناء، فيثمرُ لهُ ذلكَ حركةً ونشاطاً في حَذَر، ويسلمُ بهِ مِنَ المهالكِ والخطر، قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً))(7).
أيُّها المُسلِمُون :
إنَّ أبرزَ صُوَرِ احترامِ الحقيقةِ تحديدُ الأهدافِ على أساسِها، ووضعُ الخطواتِ وِفْقَ مُعطياتِهَا، بعيداً عَنِ الخيالاتِ الجاهلة، والأوهامِ الزائفة، والآمالِ المنحرفة، وقد ضربَ اللهُ لنا في القرآنِ الكريمِ مَثَلاً للآخذِينَ في تحقيقِ أهدافهِم بأقوى الأسبابِ لأنَّ الحقيقةَ قضتْ بذلك، فهذا ذو القرنَينِ عندما بلغَ بينَ السدَّين، طلبَ منهُ قومُ تلكَ الأرضِ أنْ يجعلَ لهم سدّاً يحميهم مِنْ يأجوجَ ومأجوجَ، الذين فسدُوا وأفسدُوا، فاستجابَ لندائِهم، طالباً منهم الإعانةَ في الأخذِ بالأسباب، وسلوكِ طريقِ الصواب، فتحقَّقَ لهُ ما أراد، واستأصلَ شأفةَ الفساد، قال تعالى: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً، قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً، قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً، آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً، فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً)) (8) ، هذا سلوكُ المُفكِّرينَ الأسوياء، وتصرُّفُ البُناةِ العقلاء، يعملون وِفْقَ الحقائقِ والمعطيات، ويبتعدونَ عن الزائفِ مِنَ الوَهْمِ والأُمنيات، أمَّا الذينَ يعملونَ بلا فكر، ويتحرَّكونَ بلا دِراسةٍ ونظر، فإنَّهُم يتطلَّعونَ إلى الرُقيِّ بلا مَرْقَى، وإلى النجاحِ بلا سبب، وإلى الغاياتِ بلا تعب، وإلى التميُّزِ بلا نَصَب، فينقلبون إلى الخسران، وتأسرُهم الأحزان، لأنَّهُم لم يرعوا للحقيقةِ عظيمَ مقدارِها، ولم يحذروا منَ المَطَبَّاتِ وأخطارِها.
أيُّها المُسلِمُون :
لَئِنْ كانَ المسلمُ مطالبًا بمراعاةِ الحقيقةِ قبلَ الإقدامِ على عمل، فهو مطالبٌ بذلك فيما يُقدِّمُه للناسِ أو يُقدِّمُه عنهم، فإنْ تكلّمَ تكلَّمَ بصدقٍ يطابقُ الحقيقةَ في معناهُ ومبناه، دونَ تهويلٍ ولا تحوير، ولا كذبٍ ولا تزوير، ينقلُ الحَدَثَ كما رآه، يقولُ تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً))(9)، إنَّ الذي يتنكَّبُ الحقيقةَ في قولهِ يضرُّ نفسَهُ ومستمعِيه، إنَّهُ يضرُّ نفسَهُ لأنَّ الناسَ يمقتونَه، فيقلُّ مقدارُهُ بينهم، وتنزلُ قيمتُه لديهم، فالكذبُ ذميمٌ مكروه، وهو يسوءُ غيرَه لأنَّهُ يضعُهُم في واقعٍ مِنْ وَهْمٍ وخيال، وكلَّما بَعُدَ الكلامُ عنِ الحقيقة، وجانبَ العباراتِ الدقيقة، زادَ بلاؤُهُ على المجتمع، وعظُمَ خَطبُهُ على الناس، فرُبّما بنَوا على قولٍ كثيراً مِنَ الآمال، فيصيبُهم الإحباطُ إذا ظهرتِ الحقيقةُ وتَجلّت، وانحسرتِ الأوهامُ وولَّت، هذا وإنَّ مِنَ الحقيقةِ في القول، الثناءَ الحسنَ على المرءِ بما فيه، ففي الحديثِ عن الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- ((لم يشكرِ اللهَ مَنْ لا يشكرِ الناس))، ولكنْ ينبَغِي أنْ يكونَ الثناءُ دقيقاً في ألفاظِه، دون مبالغةٍ ولا إطراءٍ ولا تمويه، وإنَّما ثناءٌ يدفعُ إلى مزيدٍ مِنَ العطاء، إنَّ المدحَ يجب أن يكونَ هادفاً مُنصِفا، مع الأخذِ بعَينِ الاعتبارِ أثرَهُ على الممدوح، فإنْ رأى المادحُ أنَّ مدحَه سيُورِثُ الممدوحَ بَطَراً وغُروراً أحجمَ عنه، وبَعُدَ في خطابهِ منه، فهؤلاءِ قومُ قارونَ لمَّا عرفوا سُوءَ طبعِه، وفسادَ سُلُوكِه، عدلُوا عن المدحِ إلى النصيحة، قال تعالى ((إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ))(10)، والمدحُ المذمومُ منهيٌ عنهُ لانعدامِ فائدتِه، وتحقُّقِ سُوءِ عاقبتِه، وكالمدحِ يجب أنْ يكونَ النقدُ دقيقا، فهو نقدٌ هادفٌ بعيداً عن أغراضِ التشويهِ والتشهير، نقدٌ يَعرِضُ المحاسنَ لِتنميتِها، والمساوئَ لِتجنُّبِها، بعباراتٍ حكيمة، وألفاظٍ قويمة، بعيداً عن الكلماتِ الجارحة، قال تعالى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ))(11)، إنَّ البعضَ يستهويهم تصيّدُ الأخطاء، وتتبُّعُ الزلاَّت، ويتعمَّدونَ تجاهُلَ الحسنات، فهؤلاءِ هُمُ المُغرِضُونَ المُرجِفُون، يسترونَ الحقيقةَ لأغراضٍ شخصيَّة، وعداواتٍ فَرديَّة، وقد أُمِرُوا بقولِ الحقِ ولو كانَ لِصالحِ خصمِهم، قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ))(12).
أيُّها المُسلِمُون:
إنَّ المسلمَ مأمورٌ بالانضباطِ وتَوخِّي الحقيقةِ عِندَ سماعهِ الأخبار، فهوَ عندَ ذلكَ ثابتٌ مُتثبِّت، يُمَحِّصُ الخبرَ ويمتحنُ الحديث، ويَعرِضُهُ على ميزانِ الحقيقة، فإنْ رآهُ ممكنَ الحدوثِ تبيَّنَ صدقَهُ مِنْ كذبِه، بالنظرِ في ناقلهِ ومحتواه، فإنْ تبيَّنَ الحقَّ فيهِ وإلاَّ أعرضَ عنهُ لأنَّهُ ضربٌ مِنْ ضُروبِ اللَّغو، قال تعالى واصفاً عبادَهُ المؤمنين((وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)) (13) ، فإنَّ مِنَ الإثمِ وأقبحِ الخصالِ تلقُّفَ المرءِ لكلِّ حديثٍ فينقلُهُ ويُشيعُه، قال -صلى الله عليه وسلم- : (( كفى بالمرءِ كَذبِاً -وفي رواية: إثماً- أنْ يُحدِّثَ بكلِّ ما سمع ))، ولقدْ سجَّلَ التاريخُ مآسيَ عظيمةً وأضراراً جسيمة، لَحِقَتْ بالأُمَّةِ حينَ أضحتِ الحقيقةُ في الخبرِ مُضاعة، واستُبدِلت بالأراجيفِ والإشاعة، ومن صُوَرِ ذلكَ ما لاقاهُ المسلمونَ العائدونَ مِنَ الحبشةِ مِنْ أذىً بعدَ إشاعةِ إسلامِ قُريش، وما أَحْدَثَتْه إشاعةُ استشهادِ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- في غزوةِ أُحُدٍ مِنْ تصدُّعٍ في صفوفِ المسلمين، فحَرِيٌ بالمسلمِ أنْ يصونَ نُطقَ لسانِه، ويضبطَ ألفاظَ بيانِه، وربَّما كان الصمتُ خيراً مِنَ الكلام، وقد قيل: (صمتُ المتدبِّرِ عبادة). إنَّ بعضَ الناسِ يَستغلُّونَ جهلَ الجاهلِ وغفلةَ الغافل، فيَعرُضون عُروضاً زائفة، ويصنعون لهم آمالاً وهمية، والمسلمُ مأمورٌ عند تعاملهِ مع غيرهِ أنْ يتحقَّقَ مِنْ صلاحِ ما يأخذُه، ويتبيَّنَ مِنْ سلامتِه، فهو عاقلٌ يستخدمُ عقلَهُ لمعرفةِ حقيقةِ الأشياء، فَطِنٌ لا تنطلِي عليهِ خِدَعُ الخادعين، ولا حيلُ المحتالين الذين يقصدونَ تزييفَ الحقائق، يقولُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((المؤمنُ كَـيِّـسٌ فَـطِـنٌ))، وعن عُمرَ-رضي الله عنه- قال: ((لستُ بخِبٍّ ولا الخِبُّ يخدعني)) والخِبُّ هو المخادع.
فاتقوا الله -عبادَ الله-، واحرِصُوا على الحقيقةِ في كلِّ أمورِكم، والدِّقَّةِ في كلِّ شؤونِكم.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فيا عباد الله :
إنَّ بعضَ الناسِ يُغمِضُونَ أعيُنَهُم عَنِ الحقائقِ في الحياة، ويتعاطونَ مع الرَّغباتِ بأوهامٍ تُبعِدُهُم عَنْ سُبُلِ النجاة، فَيقَعونَ في أَسْرِ الدُّيون، ألاَ وإنَّ لكلِّ شيءٍ سببا، ولكلِّ هَدَفٍ مطلبا، ولكلِّ غايةٍ طريقاً ودربا، والعاقلُ مَنْ يَحسبُ للأمرِ حسابَهُ، ويعُدُّ للسؤالِ جوابَه، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) (14) ، لتنظرْ كلُّ نفسٍ ما فعلَتْ، وكيف نظرت عندما عزمت، فالمرءُ رهينُ عملِه، وقد رزقهُ اللهُ عقلاً يَعقلُهُ عنِ المهالك، ويسيرُ بهِ إلى أقومِ المسالك، ويتفكَّرُ بهِ في عواقبِ أمرِه، ويُميِّزُ بهِ خيرَ الأمرِ مِنْ شرِّه، وفي الأثر: ((حاسبُوا أنفسَكُم قبلَ أنْ تُحاسبُوا، وزِنُوا أعمالكُم قبلَ أنْ تُوزَنَ عليكم)).
فالزموا -رحمكم الله- التفكُّرَ والنظر، والتدبُّرَ والحذر، فإنَّ حقائقَ الأشياءِ لا تتغيَّر، وسُنَنَ الكونِ لا تتبدَّل، ونواميسَهُ مِنَ البشرِ لا تُـعَـدَّل، لأنَّها مِنْ اللهِ الحكيمِ الخبيرِ الناقدِ البصير (( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ))(15)، مَنْ عَمِلَ بها وسارَ وفقَ مُقتضياتِها فقدْ سلكَ طريقَ الصلاح، وظفرَ بأسبابِ النجاح، وأيقنوا أنَّ المظاهرَ الزائفة، لا تُغيِّرُ مِنْ حقيقةِ الواقعِ شيئا، ولا تَجلِبُ لأصحابِها راحة، ولا تُكسِبُهُم طُمأنينة، ولا تَمنحُهُم سكينة، وأوُّلُ المنخدعينَ بهذا الزيفِ أصحابُه وعقولُهم، وهمُ النادمونَ عندما يَجنُونَ عواقبَ سلوكِهم. وتَعالي الوضيعِ لا يُنقصُ شيئاً مِنْ قَدَرِ الرَّفيع، كما لا يُسمنُ الإبلَ أكلُ الضريع.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (16).
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ (( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ ))