إهداء ثواب قراءة القرآن للميت:
دعاء ختم القرآن للميت::-
وقع بين فقهاء المسلمين اختلاف في إهداء ثواب قراءة القرآن للميت، هل يجوز له ذلك؟ وهل يصل ذلك إلى الميت؟ وهل ينفعه؟ واليك بيان ذلك على حسب مذاهبهم كالآتي:
- مذهب الحنفية:
يرى الحنفية أن إهداء ثواب قراءة القرآن للميت جائز، وأن ذلك ينفعه، وأنه يصل إليه، وهو ما نص عليه في تبيين الحقائق من كتبهم.(10)
- مذهب المالكية:
يذهب الإمام مالك إلى عدم جواز إهداء قراءة القرآن للميت، وأن ذلك لا ينفعه، ولا يصل إليه. وقال بعض أصحابه: إن ذلك ينفعه، ويصل إليه. قال في منح الجليل: "قال القرافي: القربات ثلاثة أقسام:
1. قسم حجر الله تعالى على عبده في ثوابه، ولم يجعل له نقله إلى غيره، كالإيمان والتوحيد.
2. وقسم اتفق على جواز نقله، وهو القربات المالية.
3. وقسم اختلف فيه، وهو الصوم والحج والقراءة، فمنعه مالك والشافعي، رضي الله تعالى عنهما...
ثم قال: فينبغي للإنسان أن لا يتركه، فلعل الحق هو الوصول، فإنه مغيب، وكذا التهليل الذي اعتاد الناس ينبغي عمله، والاعتماد على فضل الله تعالى"(11).
ونقل في منح الجليل أيضاً عن ابن رشد قوله في فتوى له عن معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39]، قال: "إن قرأ وأهدى ثواب قراءته للميت، جاز ذلك، وحصل أجره للميت، ووصل إليه نفعه إن شاء الله تعالى؛ لحديث النسائي عنه -صلى الله عليه وسلم-: «من دخل مقبرة وقرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]. إحدى عشرة مرة، وأهدى ثوابها لهم، كتب الله له من الحسنات بعدد من دفن فيها»(12).
ونقل الدسوقي عن ابن رشد هذا القول أيضاً، ونقل مثله عن ابن هلال، ونسب هذا القول للأندلسيين، حيث قال: "وقال ابن هلال في نوازله: الذي أفتى به ابن رشد وذهب إليه غير واحد من أئمتنا الأندلسيين: أن الميت ينتفع بقراءة القرآن الكريم ويصل إليه نفعه، ويحصل له أجره إذا وهب القارئ ثوابه له، وبه جرى عمل المسلمين شرقاً وغرباً، ووقفوا على ذلك أوقافاً، واستمر عليه الأمر منذ أزمنة سالفة"(13). وهذا هو مذهب المتأخرين من المالكية، كما نص عليه الدسوقي، حيث قال: "لكن المتأخرون على أنه لا بأس بقراءة القرآن والذكر، وجعل ثوابه للميت، ويحصل له الأجر، إن شاء الله"(14).
وقد ذكر المالكية قولاً ثالثاً في هذه المسألة، وهو: حصول ثواب الاستماع للميت، ولكن لا يصح منه ذلك؛ لانقطاع التكليف عنه.(15) ولعل مقصودهم بهذا القول هو عدم وصول ثواب الإهداء للميت، ولكنه ينتفع بهذه القراءة من جهة سماعه لها.
وقد علَّق في منح الجليل على انقطاع التكليف عنه، فقال: "والظاهر حصول بركة القراءة؛ لحصولها بمجاورة الرجل الصالح، ولا تتوقف على التكليف، فقد حصلت بركة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للخيل والدواب وغيرهما، كما ثبت بالجملة"(16).
- مذهب الشافعية:
للشافعية في هذه المسألة أقوال:
1. فالمشهور عن الشافعي: عدم جواز إهداء ثواب قراءة القرآن للميت، وأن ذلك لا ينفعه، ولا يصل إليه.
2. وقال الكثيرون من أصحابه: يجوز إهداء ثواب قراءة القرآن للميت، وأن ذلك ينفعه، وأنه يصل إليه.
قال النووي: "وأما قراءة القرآن، فالمشهور من مذهب الشافعي، أنه لا يصل ثوابها إلى الميت، وقال بعض أصحابه: يصل ثوابها إلى الميت"(17). وقد علَّق في فتح المعين على كلام النووي هذا فقال: "وحمل جمع عدم الوصول الذي قاله النووي على ما إذا قرأ لا بحضرة الميت، ولم ينو القارئ ثواب"(18)، ونقل في فتح الوهاب عن السبكي قوله: "الذي دل عليه الخبر بالاستنباط، أن بعض القرآن، إذا قُصِد به نفع الميت نفعه"(19). وقد نقل في فتح المعين أن القول بالجواز، هو ما اختاره كثيرون من أئمة الشافعية.(20)
وقال في نهاية المحتاج: "وفي القراءة وجه -وهو مذهب الأئمة الثلاثة- بوصول ثوابها للميت بمجرد قصده بها، واختاره كثير من أئمتنا... قال ابن الصلاح: وينبغي الجزم بنفع: اللهم أوصل ثواب ما قرأناه. أي: مثله فهو المراد، وإن لم يصرح به لفلان؛ لأنه إذا نفعه الدعاء بما ليس للداعي، فما له أولى"(21).
- مذهب الحنابلة:
وللحنابلة في هذه المسألة أقوال أيضاً كالمالكية، وهي كالآتي:
1. جواز إهداء ثواب قراءة القرآن للميت وأن ذلك ينفعه ويصل إليه. وهذا هو المشهور عن أحمد.
2. عدم جواز إهداء ثواب قراءة القرآن للميت وأن ذلك ينفعه ويصل إليه. ونسبه البهوتي إلى الأكثر.
3. وقيل: الثواب للقارئ، ولكن الرحمة تُرجى للميت بها.
قال ابن قدامة: "وأي قربة فعلها، وجعل ثوابها للميت المسلم، نفعه ذلك"(22). وقال البهوتي: "وكل قربة فعلها المسلم، وجعل ثوابها أو بعضها، كالنصف ونحوه، كالثلث أو الربع، لمسلم حي أو ميت، جاز ذلك ونفعه، ذلك لحصول الثواب له، حتى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكره المجد، من بيان لكل قربة تطوع وواجب، تدخله النيابة، كحج ونحوه كصوم نذر، أو لا تدخله النيابة، كصلاة وكدعاء واستغفار، وصدقة وعتق وأضحية وأداء دين وصوم وكذا قراءة وغيرها. قال أحمد: الميت يصل إليه كل شيء من الخير؛ للنصوص الواردة فيه، ولأن المسلمين يجتمعون في كل مصر، ويقرءون ويهدون لموتاهم من غير نكير، فكان إجماعاً"(23).
وقال بعضهم: إذا قرئ القرآن عند الميت، أو أهدي إليه ثوابه، كان الثواب لقارئه، ويكون الميت كأنه حاضرها فترجى له الرحمة.(24)
وقال البهوتي: "وقال الأكثر: لا يصل إلى الميت ثواب القراءة وأن ذلك لفاعله".(25)
الأدلة على أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى:
استدل من قال من العلماء بعدم وصول إهداء ثواب قراءة القرآن للموتى، وبأن ذلك لا ينفعهم، بأدلة منها:
1. قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39] (26)، ووجه الدلالة من الآية هو أن القراءة للأموات ليس من عملهم ولا كسبهم؛ ولهذا لم يندب إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمته ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء.(27)
2. وقوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 134]،(28). فقد دلت الآية على أن الإنسان يؤاخذ بفعل نفسه، ولا يؤاخذ بفعل غيره.
3. واستدلوا أيضاً(29) بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له». فقد دل الحديث على انقطاع العمل عن الميت، إلا هذه الثلاث المذكورة في الحديث، وليس إهداء ثواب القراءة منها.
4. واستدلوا أيضاً بقياس القراءة على الصلاة في عدم الوصول؛ لأن كل منهما عبادة بدنية.(30)
5. واستدلوا أيضاً بأنه لم ينقل عن أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم كانوا يُهدُون ثواب القراءة للأموات، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.(31)
6. واستدلوا أيضاً بأن باب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء.(32)
7. واستدلوا أيضاً بأن ثواب القراءة هو الجنة، وليس في قدرة العبد أن يجعلها لنفسه فضلاً أن يجعلها لغيره.(33)
8. واستدلوا أيضاً بأن نفع القراءة لا يتعدى فاعله، فلا يتعداه ثوابه.(34)
الأدلة على أن القراءة يصل إهداء ثوابها إلى الموتى:
استدل من قال من العلماء بوصول إهداء ثواب قراءة القرآن للموتى، وأن ذلك ينفعهم، بأدلة منها:
1. قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾ [غافر: 7،8]، ودعاء الميت لهم؟ ليس من عمل الأموات بل ذلك من عمل الغير وقد نفعهم.(35)
2. وقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ [الحشر: 10](36). ودلالته على المراد كسابِقِه.
3. وقال سبحانه: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد: 19](37). فقد أمر الله نبيه أن يستغفر للمؤمنين، فدل ذلك أن الاستغفار يصل إليهم وينفعهم. قال في تبيين الحقائق: "وروي عن أبي هريرة قال: يموت الرجل، ويدع ولداً، فيرفع له درجة، فيقول: ما هذا يا رب؟! فيقول سبحانه وتعالى: "استغفار ولدك". ولهذا قال تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد: 19]، وما أمر الله به من الدعاء للمؤمنين والاستغفار لهم"(38).
4. واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ [الطور: 21]، فقد دلت الآية على أن الله سبحانه يُلحق الأبناء المؤمنين بآبائهم المؤمنين، وهذا دليل على أن الإنسان قد ينتفع بسعي غيره.(39)
5. واستدلوا أيضاً بحديث(40): «من مر بالمقابر، فقرأ إحدى عشرة مرة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]، ثم وهب أجره الأموات، أعطى من الأجر بعدد الأموات»(41).
6. وبحديث معقل بن يسار(42) رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اقرءوا يس على موتاكم» رواه أبو داود.(43) فقد أمر -صلى الله عليه وسلم- بقراءة سورة يس -وهي من القرآن- على الموتى، وهذا دليل على أن القراءة تنفعهم، وإلا لما كان في الأمر لهم بقراءة يس فائدة.
7. وعن عائشة وأبي هريرة -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضحى بكبشين سمينين عظيمين أملحين أقرنين موجوئين، فذبح أحدهما، فقال: «اللهم عن محمد وأمته، من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ»(44). أي جعل ثوابه لأمته، وهذا تعليم منه عليه الصلاة والسلام أن الإنسان ينفعه عمل غيره، والاقتداء به هو الاستمساك بالعروة الوثقى.(45)
8. واستدلوا أيضاً بحديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: لما أصيب عمر -رضي الله عنه- جعل صهيب يقول: وا أخاه! فقال عمر -رضي الله عنه- أما علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الميت ليعذب ببكاء الحي»(46). فإذا كان البكاء يضره فالقراءة تنفعه، والله أكرم من أن يوصل عقوبة المعصية إليه، ويحجب عنه المثوبة.(47)
9. واستدلوا أيضاً بإجماع المسلمين على جواز ذلك؛ فإنهم في كل عصر ومصر يجتمعون، ويقرأون القرآن، ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير.(48)
قلت: نقْلُ الإجماع في هذه المسألة غريب؛ لأن الخلاف في المسألة مشهور.