الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:
فمن أشهر كتب العلامة ابن القيم رحمه الله كتابه الموسوم بـ"الفوائد"، وهو اسم على مسمًّى، فالفوائد فيه كثيرة، وقد يسر الله الكريم فانتقيتُ شيئًا منها، أسأل الله أن ينفع بها ويبارك فيها.
أسباب الانتفاع بالقرآن:
إذا أردتَ الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألقِ سمعك، واحضر حُضور مَن يخاطبه به مَن تكلم به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]:
قوله: ﴿ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾: المراد به القلب الحيُّ الذي يعقل عن الله.
وقوله: ﴿ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ﴾: أي: وجَّهَ سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يُقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام.
وقوله: ﴿ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾: أي: شاهد القلب حاضر غير غائب.
فإذا حصل المؤثِّر وهو القرآن، والمحل القابل وهو القلب الحي، ووُجد الشرط وهو الإصغاءُ، وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر - حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر.
متى شهِد العبد أن ناصيتَه ونواصي العباد كلها بيد الله لم يخفْهم، ولم يرجُهم:
متى شهد العبد أن ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء، لم يخفهم بعد ذلك، ولم يرجهم، ولم ينزِلهم منزلة المالكين، بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين، المتصرف فيهم سواهم، والمدبر لهم غيرهم.
فمن شهد نفسه بهذا المشهد، صار فقرُه وضرورتُه إلى ربه وصفًا لازمًا له، ومتى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم، ولم يُعلِّق أمله ورجاءه بهم، فاستقام توحيده وتوكله وعبوديته.
سؤال الله عز وجل ذهاب الحزن والهمِّ والغمِّ بالقرآن:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري، وجِلاء حزني وذهاب همي وغمي))... لما كان الحزن والهم والغم يضاد حياة القلب واستنارته، سأل أن يكون ذهابها بالقرآن، فإنها أحرى ألَّا تعود، وأما إذا ذهبت بغير القرآن من صحة أو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد، فإنها تعود بذهاب ذلك.
الحذر من التكاثر الذي لا يكون في طاعة الله ورسوله:
قوله تعالى: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾ [التكاثر: 1]: أي شغلكم على وجهٍ لا تعتذرون فيه... وأعرض عن ذكر المتكاثَر به إرادة لإطلاقه وعمومه، وأن كل ما يُكاثِر به العبد غيره سوى طاعة الله ورسوله وما يعود عليه بنفع معاده - فهو داخلٌ في هذا التكاثر، فالتكاثر في كل شيء؛ من مال، أو جاه، أو رئاسة، أو نسوة، أو حديث، أو عِلمٍ - ولا سيما إذا لم يُحتجْ إليه - والتكاثر في الكتب والتصانيف، وكثرة المسائل وتفريعها وتوليدها، والتكاثر أن يطلب الرجل أن يكون أكثر من غيره، وهذا مذموم إلا فيما يقرب إلى الله؛ فالتكاثر فيه منافسة في الخيرات ومسابقة إليها.
مشاهد على العبد ملاحظتها إذا جرى له مقدورٌ يكرهه:
إذا جرى على العبد مقدور يكرهه، فله فيه ستة مشاهد:
أحدها: مشهد التوحيد، وأن الله هو الذي قدره وشاءه وخلقه، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
الثاني: مشهد العدل، وأنه ماضٍ فيه حكمُهُ، عدلٌ فيه قضاؤه.
الثالث: مشهد الرحمة، وأن رحمته في هذا المقدور غالبة لغضبه وانتقامه، ورحمته حشوه.
الرابع: مشهد الحكمة، وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك، لم يقدره سدًى ولا قضاه عبثًا.
الخامس: مشهد الحمد، وأن له سبحانه الحمد التام على ذلك من جميع الوجوه.
السادس: مشهد العبودية، وأنه عبدٌ محضٌ من كل وجه، تجري عليه أحكام سيده وأقضيته بحكم كونه ملكه وعبده، فيصرفه تحت أحكامه القدرية كما يصرفه تحت أحكامه الدينية، فهو محل لجريان هذه الأحكام عليه.
الاجتماع بالإخوان:
الاجتماع بالإخوان قسمان:
أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يُفسد القلب ويُضيِّع الوقت.
الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر، فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات:
إحداها: تزيُّن بعضهم لبعض.
الثانية: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة.
الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود.
الإنسان مولعٌ بحبِّ العاجل وإن كان دنيئًا، وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان عليًّا:
والعبد - لجهله بمصالح نفسه، وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه - لا يعرف التفاوت بين ما مُنع منه وبين ما ذُخر له، بل هو مولع بحبِّ العاجل وإن كان دنيئًا، وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان عليًّا.
ولو أنصف العبد ربه - وأنى له بذلك - لعلِمَ أن فضله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها أعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك، فما منعه إلا ليعطيَه، ولا ابتلاه إلا ليعاقبه، ولا امتحنه إلا ليصافيَه، ولا أماته إلا ليحييَه، ولا أخرجه إلى هذه الدار إلا ليتأهب منها للقدوم عليه وليسلك الطريق الموصلة إليه.
أصول الخطايا:
أصول الخطايا كلها ثلاثة:
الكبر: وهو الذي أصار إبليس إلى ما أصاره، والحرص: وهو الذي أخرج آدم من الجنة، والحسد: وهو الذي جرَّأ أحد ابني آدم على أخيه، فمن وُقيَ شر هذه الثلاثة فقد وُقي الشر؛ فالكفر من الكبر، والمعاصي من الحرص، والبغي والظلم من الحسد.
هجر القرآن:
هجر القرآن أنواع:
أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
الثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرآه وآمن به.
الثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه.
الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
الخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها.
حقيقة العبودية:
من عرف نفسه عرف ربه، فإنه من عرف نفسه بالجهل والظلم، والعيب والنقائص، والحاجة والفقر، والذل والمسكنة والعدم - عرف ربه بضدِّ ذلك، فوقف بنفسه على قدرها، ولم يتعدَّ بها طورها، وأثنى على ربه ببعض ما هو أهله، وانصرفت قوة حبه وخشيته ورجائه وإنابته وتوكله إليه وحده، وكان أحب شيء إليه وأخوف شيء عنده وأرجاه له، وهذا هو حقيقة العبودية، والله المستعان.
م ن