الحمد لله وحده والصﻼة والسﻼم على من ﻻ نبي بعده وبعد فإن الله تعالى فضل بعض اﻷزمنة واﻷوقات على بعض وخصها بأمور دون غيرها ومن ذلك شهر رمضان والعشر اﻷواخر خيره وليلة القدر أفضل لياليه قال تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر:3) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) رواه البخاري (1802) ومنها عشر ذي الحجة فقد حُث فيها على مزيد من الطاعة والعبادة أكثر من غيرها فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ اﻷَيَّامِ ). يَعْنِى أَيَّامَ الْعَشْرِ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَﻻَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ ( وَﻻَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِﻻَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَىْءٍ ) رواه البخاري (926) وأبو داود (2440) واللفظ له . وغير ذلك من اﻷزمنة الفاضلة كالثلث اﻷخير من الليل ومن هذه اﻷزمنة شهر شعبان فالناس فيه طرفا نقيض ما بين منكر لما خص فيه من عبادات ومن مبتدع فيه ما لم يشرعه الله وﻻ رسوله صلى الله عليه وسلم والحق الوسط في ذلك فنثبت ما أثبته الشرع من غير زيادة وﻻ نقصان وهذا ما سيرد بيانه إن شاء الله تعالى .
سبب تسمية شعبان :
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى " وسمي شعبان لتشعبهم في طلب المياه أو في الغارات بعد أن يخرج شهر رجب الحرام وهذا أولى من الذي قبله وقيل فيه غير ذلك " ا.هـ فتح الباري 4/213وانظر كشف المشكل من حديث الصحيحين ﻻبن الجوزي 1/319
ومن فضائله أن اﻷعمال ترفع فيه :
لما رواه أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَال : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ ؟ قَالَ : (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ )رواه أحمد(21753) والنسائي (2356) وصححه ابن خزيمة .
كثرة صيام النبي صلى الله عليه وسلم فيه
لحديث أسامة السابق ولحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِﻻَّ رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ فِى شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ.رواه البخاري (1868) ومسلم (2777) .
حكم صيام النصف من شعبان
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِذَا كَانَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ فَأَمْسِكُوا عَنْ الصَّوْمِ حَتَّى يَكُونَ رَمَضَانُ ) رواه أحمد (9707) وصححه ابن حبان (3589) قال ابن رجب رحمه الله تعالى :صححه الترمذي و غيره و اختلف العلماء في صحة هذا الحديث ثم في العمل به : فأما تصحيحه فصححه غير واحد منهم الترمذي و ابن حبان و الحاكم و الطحاوي و ابن عبد البر و تكلم فيه من هو أكبر من هؤﻻء و أعلم و قالوا : هو حديث منكر منهم ابن المهدي و اﻹمام أحمد و أبو زرعة الرازي و اﻷثرم و قال اﻹمام أحمد : لم يرو العﻼء حديثا أنكر منه "ا.هـ لطائف المعارف /151 أما صيام النصف من شعبان مفردا فهذا ﻻ أصل له بل إفراده مكروه نص عليه ***** تقي الدين رحمه الله تعالى في اﻻقتضاء 2/632 وقال المباركفوري رحمه الله تعالى : " لم أجد في صوم يوم ليلة النصف من شعبان حديثا مرفوعا صحيحا " ا.هـ تحفة اﻷحوذي 3/368
أما حديث " إذا كانت ليلة النصف من شعبان ، فقوموا ليلها وصوموا نهارها " فقد رواه ابن ماجه (1388) والبيهقي في الشعب (3922)وابن الجوزي في العلل المتناهية 2/562 وقال : حديث ﻻ يصح . وقال البوصيري رحمه الله تعالى : هذا إسناد فيه ابن أبي سبرة واسمه أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة قال أحمد وابن معين يضع الحديث . مصباح الزجاجة (491) وقال المباركفوري : ضعيف جدا . تحفة اﻷحوذي 3/368
ليلة النصف من شعبان
عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( يَطَّلِعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِر لِعِبَادِهِ إِلَّا لِاثْنَيْنِ مُشَاحِنٍ وَقَاتِلِ نَفْسٍ ) رواه أحمد (6642) من طريق ابن لهيعة .
وعن أبي موسى اﻷشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( يطلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إﻻ لمشرك أو مشاحن ) رواه ابن ماجه (1390) قال البوصيري رحمه الله تعالى : إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن لهيعة وتدليس الوليد بن مسلم . الزوائد (493) وله شاهد رواه ابن حبان (5665) من حديث معاذ رضي الله عنه قال أبو حاتم الرازي رحمه الله: "هذا حديث منكر بهذا اﻹسناد " العلل ﻻبن أبي حاتم (2012) وذكر الدارقطني الحديث في العلل من عدة طرق ثم قال " والحديث غير ثابت " ا.هـ
وعن زيد بن أسلم رحمه الله تعالى قال: ما أدركنا أحدا من مشيختنا وﻻ فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان, وﻻ يلتفتون إلى حديث مكحول , وﻻ يرون لها فضﻼ على ما سواها . انظر : البدع للطرطوشي /130 والبدع ﻻبن وضاح/46
وقال شيخ اﻹسﻼم ابن تيمية رحمه الله تعالى : " أما ليلة النصف من شعبان فقد روى في فضلها من اﻷحاديث المرفوعة واﻵثار ما يقتضي أنها ليلة مفضلة وأن من السلف من كان يخصها بالصﻼة فيها " ا.هـ اقتضاء الصراط المستقيم 2/631 ويﻼحظ هنا أن اﻷحاديث الواردة في فضلها ﻻ تخلو من مقال واضطراب ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وﻻ عن أحد من أصحابه تخصيصها بقيام أو صﻼة وإنما جاء ذلك عن بعض السلف قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى : " كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول و لقمان بن عامر و غيرهم يعظمونها و يجتهدون فيها في العبادة و عنهم أخذ الناس فضلها و تعظيمها و قد قيل أنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك فمنهم من قبله منهم ووافقهم على تعظيمها منهم طائفة من عباد أهل البصرة و غيرهم و أنكر ذلك أكثر علماء الحجاز منهم عطاء و ابن أبي مليكة و نقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة و هو قول أصحاب مالك و غيرهم و قالوا : ذلك كله بدعة " ا.هـ لطائف المعارف/151
وقد زعم أقوم أن المراد بقوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (الدخان أنها ليلة النصف من شعبان وهذا خطأ بين بل المراد بذلك ليلة القدر كما صوبه ابن جرير رحمه الله تعالى في تفسيره 11/221 وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : " وهذه هي ليلة القدر قطعا لقوله تعالى ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) ومن زعم أنها ليلة النصف من شعبان فقد غلط "ا.هـ شفاء العليل /45 وقال ابن كثير رحمه الله تعالى "ومن قال: إنها ليلة النصف من شعبان فقد أبعد النَّجْعَة فإن نص القرآن أنها في رمضان "ا.هـ التفسير 7/232 وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى " إنها دعوى باطلة "ا.هـ أضواء البيان 7/319
صﻼة اﻷلفية :
ومن البدع المنكرة في شهر شعبان ما أحدثه بعض الناس في القرن الخامس من تخصيص ليلة النصف بصﻼة سموها صﻼة اﻷلفية وأول من ابتدعها ابن أبي الحمراء سنة 448هـ وكان حسن التﻼوة حيث قام يصلي في المسجد اﻷقصى ليلة النصف من شعبان فأحرم خلفه رجل وهكذا فما ختمها إﻻ وهو في جماعة ثم جاء العام القادم فصلى معه خلق كثير وشاعت وانتشرت . انظر : الحوادث والبدع /132 والباعث /124 قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " وهذه الصﻼة وضعت في اﻹسﻼم بعد اﻷربعمائة ونشأت من بيت المقدس فوضع لها عدة أحاديث " ا.هـ المنار المنيف /98 قال أبو شامة رحمه الله تعالى : " وللعوام فيها افتتان عظيم ... وزين لهم الشيطان جعلها من أصل شعائر المسلمين "ا.هـ الباعث /124
وصفتها ما جاء في اﻷثر المكذوب " يا علي من صلى مائة ركعة في ليلة النصف، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد عشر مرات يا على ما من عبد يصلى هذه الصلوات إﻻ قضى الله عز وجل له كل حاجة طلبها تلك الليلة" رواه ابن الجوزي في الموضوعات 2/127 من عدة طرق ثم قال :" هذا حديث ﻻ نشك أنه موضوع، وجمهور رواته في الطرق الثﻼثة مجاهيل وفيهم ضعفاء والحديث محال قطعا ... وقد جعلها جهلة أئمة المساجد مع صﻼة الرغائب ونحوها من الصلوات شبكة لمجمع العوام وطلبا لرياسة التقدم ومﻼ بذكرها القصاص مجالسهم وكل ذلك عن الحق بمعزل" ا.هـ وقال أبو شامة رحمه الله تعالى : " وهي صﻼة طويلة مستثقلة لم يأت فيها خبر وﻻ أثر إﻻ ضعيف أو موضوع "ا.هـ الباعث على إنكار البدع /124 وانظر : اﻷمر باﻻتباع للسيوطي /139 وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى : " إن الحديث الوارد في الصﻼة اﻷلفية موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث "ا.هـ اقتضاء الصراط المستقيم 2/632وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : " ومن اﻷحاديث الموضوعة أحاديث صﻼة ليلة النصف من شعبان – إلى قوله - والعجب ممن شم رائحة العلم بالسنن أن يغتر بمثل هذا الهذيان ويصليها "ا.هـ المنار المنيف /99 وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية رحمه الله تعالى : " وقد روى الناس اﻷغفال في صﻼة ليلة النصف من شعبان أحاديث موضوعه وواحد مقطوع وكلفوا عباد الله باﻷحاديث الموضوعة فوق طاقتهم من صﻼة مائة ركعة في كل ركعة الحمد لله مرة وقل هو الله أحد عشر مرات فينصرفون وقد غلبهم النوم فتفوتهم صﻼة الصبح التي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال ( من صلى الصبح فهو في ذمة الله ) "ا.هـ الباعث /127 وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : " وقد رأينا كثيرا ممن يصلى عدة الصﻼة ويتفق قصر الليل فيفوتهم صﻼة الفجر ويصبحون كسالى "ا.هـ الموضوعات 2/127 وقال السيوطي رحمه الله تعالى : " والعجب من حرص الناس على هاتين الليلتين - اﻷلفية والرغائب – وتقصيرهم في اﻷمور المؤكدات الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ا.هـ اﻷمر باﻻتباع / 136 والمحذور هنا هو تخصيص هذه الليلة بصﻼة دون غيرها أو أداء الصﻼة فيها على الصفة المذكورة المنكرة قال أبو شامة رحمه الله تعالى : " المحذور المنكر تخصيص بعض الليالي بصﻼة مخصوصة على صفة مخصوصة وإظهار ذلك على مثل ما ثبت من شرائع اﻹسﻼم كصﻼة الجمعة والعيد وصﻼة التراويح فيتداولها الناس وينشأ أصل وضعها ويربى الصغار عليها قد ألفوا أباءهم محافظين عليها محافظتهم على الفرائض بل أشد محافظة ومهتمين ﻹظهار هذا الشعار بالزينة والوقيد والنفقات كاهتمامهم بعيدي اﻹسﻼم بل أشد على ما هو معروف من فعل العوام وفي هذا خلطوا ضياء الحق بظﻼم الباطل " ا.هـ الباعث / 132
وخير من هذا كله ما رواه أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : ( يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ اﻵخِرُ فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ وَمَنْ يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ ) رواه البخاري (1094) ومسلم (1808) وهذا من فضل الله تعالى وكرمه ورحمته بهذه اﻷمة أن جعل ذلك في كل ليلة فله الحمد أوﻻ وآخرا .
ومما يشرع في شهر شعبان أن من عليه قضاء من رمضان ﻻ يجوز له تأخيره حتى دخول رمضان الذي يليه من غير عذر عن عَائِشَةَ - رضى الله عنها - تَقُولُ كَانَ يَكُونُ عَلَىَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِﻻَّ فِى شَعْبَانَ وَذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- . رواه مسلم (2744) .
ومما ينهى عنه في شعبان صيام يوم الشك لما رواه صِلَةُ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ عَمَّارٍ رضي الله عنه فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَأُتِي بِشَاةٍ فَتَنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ فَقَالَ عَمَّارٌ : مَنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم- . رواه أبو داود (2336) والنسائي (2187) وابن ماجه (1645) وصححه ابن حبان (3596) والحاكم (1547) اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم موافقة لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .