فنقفُ وقفةً يسيرةً مع آيتين من كتاب الله؛ قال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ }
[الصف: 2 - 3].
قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي - رحمه الله -:
"قوله: { لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ }؛
أي: لم تقولون الخير، وتحثُّون عليه،
وربما تَمَدَّحْتُم به، وأنتم لا تفعلونه، وتنهون عن الشرِّ، وربما نزَّهتم أنفسكم
عنه، وأنتم متلوِّثون متَّصفون به؟!
ولهذا ينبغي للآمِر بالخير أن يكون أوَّل الناس مُبَادرةً إليه، والنَّاهي عن الشرِّ
أن يكون أبعدَ الناس عنه".
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما:أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
يُجاء بالرَّجُل يوم القيامة، فيُلقى في النار، فتندلق أَقْتَابُه ،
فيدور بها كما يدور الحمار برَحاه، فيجتمع أهل النار عليه؛ فيقولون:
أي فلان، ما شأنُك؟
أليس كنتَ تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟!
فيقول: كنتُ آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: مررتُ ليلة أُسريَ بي على قومٍ تُقرَض شفاهُهم بمقاريضَ من نارٍ؛
فقلتُ: مَنْ هؤلاء يا جبريل؟!
قال: خطباءٌ من أمَّتِكَ، يقولون ما لا يفعلون
ومن فوائد الآيتين الكريمتين:
أولاً:
استدلَّ بها بعض أهل العلم على وجوب الوفاء بالوعد
عن أبي هريرة - رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
آية المنافق ثلاثٌ: إذاحَدَّث كذب، وإذا وَعَد أخلف، وإذا اؤتمن خان
ثانيًا:
إن العلم قرين العمل؛ ولذلك يسأل المرء يوم القيامة عن علمه: ماذا عمل به؟
جاء في حديث أبي بَرْزَة الأَسْلَمي رضي الله عنه :أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم
قال:لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل: عن عمره:فيمَ أفناه؟
وعن علمه: فيمَ فعل؟
وعن ماله: من أين أكتسبه، وفيمَ أنْفَقَهُ؟
وعن جسمه: فيمَ أبلاه؟
وعن جندب بن عبدالله رضي الله عنه :أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم
قال: مَثَلُ الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كَمَثَل السِّراج: يُضيءللناس، ويحرق نفسَه
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله :
أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة: عالمٌ لم ينفعه الله بعلمه، فذنبُه من جنس ذنب اليهود.
ثالثًا:
أن الله - عزَّ وجلَّ - نهى المؤمن أن يقول ما لا يفعل؛ لكن لو كان المؤمن
مُقَصِّرًا في طاعة الله، مرتكبًا لبعض المعاصي - فإن ذلك لا يُسقِط عنه الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر
قال تعالى:
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ
لَبِئْسَ مَاكَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78: 79].
وعن أبي سعيد الخُدْرِيّ - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال:
((مَنْ رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن
لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان))
كان الحسن - رضي الله عنه - إذا نهى عن شيءٍ لا يأتيه أصلاً، وإذا أمر
بشيءٍ كان شديد الأَخْذ به، وهكذا تكون الحكمة.
قال أبو الأسود الدُّؤلي:
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُقْبَلُ إِنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى بِالْعِلْمِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ
وقد صحَّ عن الحسن: أنه سمع إنسانًا يقول:
لا يجب أن ينهى عن الشرِّ إلا مَنْ لا يفعله، قال الحسن:
وَدَّ إبليسُ لو ظفر منَّا بهذه؛ حتى لا ينهى أحدٌ عن منكر، ولا يأمر
بمعروف.. قال ابن حزم: صَدَقَ الحسنُ، وهو قولنا آنفًا"
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه
أجمعين.